ركام أحلام يتوزّع على طابقين من مبنى التريينّالي في ميلانو، الذي يستضيف معرض "الأرض المضطربة" إلى غاية 20 آب/ أغسطس 2017. إنها أرضنا، وأصواتنا، وقلقنا وفوق كل شيء إحباطنا ونحن نصغي، بعجز وقصور، لتلك الحوارات المتداخلة مع هدير البحر، وصراخ الغرقى والرجال الذين يكافحون من أجل إنقاذهم.
أول ما يطالع الزائر - من المدخل الذي يحمل اسم "الآخرون"، بجانب المدخل المحاذي "مواطنو الاتحاد الأوروبي"، في مفارقة مقصودة - تلك السيارة، "فيات" قديمة، مع عفشها، في الداخل وعلى السقف، التي أراد من خلالها الفنان مناف حلبوني (السوري المقيم في ألمانيا) أن تكون عنواناً يصحبنا ليس داخل الأروقة فحسب، إنما إلى أعماق ضمائرنا.
هجرة وفن، غموض وترسّبات من الماضي، ترسم معالم المعرض الذي يحاول سبر أبعاد الهجرة المحمومة، عبر أعمال فنانين معاصرين وتحقيقات مصوّرة قادمة لتوّها من سواحل لامبيدوزا، معبد الإلهام لمن يريد أن يعيش لبرهة مأساة القرن. قسم الفن البصري هنا، يعيد تجسيد الحاضر مع كل استثناءاته، مولياً اهتماماً خاصاً بالتعبيرات التجريبية والمتجدّدة للفن والثقافة.
"الأرض المضطربة"، عنوان مستعار من مجموعة شعرية للكاتب الكاريبي إدوار غليسان، هو عملية تشاركية بين "تريينّالي ميلانو" ومؤسسة "نيكولا تروسّاردي" لمشروع مُلحّ ويملك الطموح لسرد الحاضر كأرض غير مستقرة ومعرّضة لهزّات عنيفة ومستمرة، منطلقاً من تعدّدية السرد وما يحمله من ترجمات مختلفة حسب الرؤيا الخاصة لكل فنان.
ويهدف، كما صرّح القيّم والمُعدّ ماسّيميليانو جوني، إلى إفساح المجال أمام التغيّرات التي باتت سمة الإبداع الفني والثقافة المعاصرة، وبيان قدرته منح صوت إلى الظواهر التي تحمل في ثناياها تحولات كبيرة.
يشترك في المعرض 65 فناناً وفنانة من مختلف بلدان العالم: ألبانيا، والجزائر، وبنغلادش، ومصر، وغانا، ولبنان، والمغرب، وسورية وتركيا. ويحاول، عبر تجسيديات، فيديوهات، صور ريبورتاج، مواد تاريخية وأغراض تنتمي لجغرافيات حقيقية وخيالية، إعادة بناء أوديسّا المهاجرين وقصص فردية وجمالية لرحلات البائسين، بدءاً من التغيير المستمر في المشهد العالمي والتاريخ المعاصر، وبشكل خاص إشكالية المهاجرين من الدول الفقيرة، وأزمة اللاجئين الفارّين من مناطق تشهد حروباً دامية.
التغطيات تشمل سلسلة من البؤر الجغرافية ومناطق التوتر؛ الحرب في سورية، وحالة الطوارئ في جزيرة لامبيدوزا، والحياة في مخيّمات اللاجئين، ومأساة آلاف المهاجرين الذين يغامرون بحياتهم بحثاً عن ملاذ آمن وحياة كريمة.
وهو في نفس الوقت، رواية جمالية أيضاً كتبت بلغات مختلفة عن شعوب بحالها تركت لمصيرها، في مسار شائك يحاول أن يتبع ويقدّم صورة حقيقية عن التقلّبات الحادّة للاقتصاد العالمي والعلاقات المتشابكة التي تتقاطع مع أجساد، بضائع، رؤوس أموال، ومسارات برّية وبحرية وجوّية أرادت العولمة أن تقتصر على تبادل السلع فحسب!
من جهة أخرى، المعرض يرسم بورتريها جماعيا لمئات الآلاف، بل الملايين من الأشخاص الذين يبدو أنهم أصبحوا، أو يراد لهم أن يبقوا مهمّشين، بلا ملامح وبلا أي أمل في مستقبل يضمن لهم الحدّ الأدنى من الكرامة الإنسانية.
في مركز المعرض مثلاً، تم تركيب فيديو "مشروع رسم خرائط الرحلة" للفنانة المغربية بشرى خليلي، الذي يروي ببساطة قصص المهاجرين الذين عبروا قارات بحالها للبحث عن منفذ في الحصن الأوروبي.
ومتوقفاً عند المنتج الفني والثقافي أكثر ممّا عند الحدث، يركّز المعرض بشكل خاص على دور الفنان كشاهد على أحداث تاريخية ومأساوية وعلى قدرة الفن في مواجهة التحولات الاجتماعية والسياسية.
ففي الوقت الذي تنقل فيه الميديا والإعلام الرسمي أخبار حروب وثورات تُبَثّ عن بعد، كثير من الفنانين الذين عايشوا هذه الأحداث يعرفون ويصفون العالم الذي أتى منه المهاجرون، ولهذا السبب يتكلمون عنه بحسّ مسؤول يكشف بوضوح تعقيدات الحدث الدراماتيكي دون أن يقعوا في فخ النمطية والعاطفية التي عوّدتنا عليها وسائل الميديا المعاصرة.
النتيجة، نحن أمام أعمال فنية تمتزج فيها النماذج التقليدية للصحافة والسرد الوثائقي في مقاربة مدهشة بين الواقع والخيال. وفي هذه المواجهة بالضبط، بين صور وسرديات متقاطعة، يحاول معظم الفنانين إضفاء الشكّ والنقد إلى لغة الصور ووسائل الاتصال: ليس صور حروب فحسب، بل صور تبرز القواسم المشتركة وإمكانية التعايش على أرض لا نملك غيرها ولا يمكن أن تبقى حكراً لجشع المستغلين وأمراء الحروب.
نجد أيضاً حكايات تتأرجح بين الأفريسكو واليوميات التي تُدَوَّن مباشرة، وتقدم شهادات حيّة، عاجلة وضرورية، مثل أعمال إيتو بارّادا (فرنسا)، إسحاق جوليين (المملكة المتحدة) وياسمين كبير (بنغلادش). في حالات أخرى، نجد أن معظم الفنانين يملكون القدرة على مواجهة أحداث معينة وأن يفرضوا في نفس الوقت قراءات مجازية للحظة تاريخية أكثر شمولاً.
في التخاطب مع الصورة نقف وجهاً لوجه مع نواة الأزمة، ونجد أن كثيراً من الفنانين يبحثون عن أشكال جديدة يقدمون من خلالها المهاجرين متفادين بحذاقة استعراضية صحافة الإثارة. النظرة الزائغة لصور إيتو بارادا، ترْخيم الوجوه في تفاصيل فيديوهات منيرة الصلح، أو التحولات الغريبة في رسوم ركني خيري زاده (إيران)، هي بعض الأمثلة الواضحة فقط، بالإضافة إلى صورة اللاجئ التي رسمها فيل كولينز (المملكة المتحدة)، يرفض من خلالها الفنانون الأزمة العالمية والرضوخ لجمالية البؤس.
البحث عن كرامة اللاجئ نجده أيضاً في أعمال كثير من الفنانين الآخرين، مع بحث عن الوظيفة التذكارية الضخمة، كما في أعمال عادل عبد الصمد وقادر عطية (الجزائر/ فرنسا)، وبانو جَنَّتْ أوغلو (تركيا)، وتوماس شوتّهْ (ألمانيا)، وأندرا أوسوتا (رومانيا) ودانْهْ فو (فيتنام)، الذين يعيدون صياغة النُصُب العملاقة بتجسيديات تحمل الكثير من همومنا المعاصرة ومغلّفة بسخط واحتجاج مباشر لما وصلت إليه الحالة الراهنة.
أحد الأسئلة الرئيسة للمعرض هو مغزى الصورة في الأزمة ومن الأزمة: صورة هي بحدّ ذاتها مُهاجِرة، حيث تبحث عن الحقيقة في الأزمة وتُؤزّم مفهوم الحقيقة كسرد فريد من نوعه. ذاك الذي يتبعه كثير من الفنانين المعاصرين هو الصورة المتحركة والصورة المؤثرة حرفياً.
هنالك أمثلة متعددة في المعرض تتلازم فيها الحركة وهجرة السلع، الأغراض والأشكال عبر حدود وحواجز سواء أيديولوجية أو اقتصادية. من أعمال إل أناتسوي (غانا)، أليغييرو بويتّي (إيطاليا)، حسن شريف ومنى حاطوم، تظهر كارتوغرافيا (خرائطية أو فن رسم الخرائط)، تعيد فيها الأعمال الفنية رسم طرق سير التجارة والاقتصاد العالميين، مع تجاوز مسألة المواد وتقنيات الإنجاز، والتشديد على الأغراض والمنتجات الجمعية التي غالباً ما تكون مُدَوّرَة ومُعرّضة لإجراءات التغيير والترجمة عبر سياقات اجتماعية متفرقة، تضع في المشهد نوعاً من التنكّر البيئي لآليات إنتاج وتوزيع وصناعة كونية مع توسعاتها المستمرة وتنقلاتها من مكان لآخر.
ومع كل لوحة أو تجسيد أو ريبورتاج مصوّر، يزداد قلق الفنانين، الذي هو قلقنا، نتردّد قليلاً قبل أن نخرج، وكأنما الأصوات التي يتنقل صداها في ردهات تشبه المتاهة، تريد أن تخبرنا قصة أخرى. نحثّ الخطى ونحن نعرف تماماً أن تلك الأصوات أصبحت جزءاً من وجودنا.