"الأدب العربي القديم": المصطلح وأثر المسافة

13 ابريل 2018
عمل لـ ساسان ناصرنيا/ إيران
+ الخط -

لا ينفكّ الأدب العربي القديم يبتعد عنا زمنياً، فتفصلنا عنه علاوة على القرون ذائقات جديدة ومعتقدات وتمثلات وطرق تلق قد لا تتناغم مع معدنه، وقد نشعر بهذا البعد في اللغة نفسها. وإن كان قارئ اليوم يستعمل نفس لغة هذا الأدب القديم غير أن كلمات كثيرة منه قد أسقطها الزمن من التداول. رغم ذلك لا يزال هذا الأدب محتفظاً بكثير من بهائه وبريقه فيَطرب بعضهم لأشعار من العصر الأموي أو العباسي أكثر مما يطرب لقصائد شعراء يعاصرونه، وهكذا لم تتأثّر "شعبية" امرئ القيس أو المتنبّي أو غيرهما على مدى القرون، بل لعلّها تدعّمت حين وجدت قرّاء وباحثين يأتون إلى تلك النصوص العتيقة بمقاربات ومناهج تبلورت وتطورّت في مناخات أخرى.

ضمن فعاليات الدورة 34 من "معرض تونس الدولي للكتاب" التي تتواصل حتى 15 من الشهر الجاري، أقيمت الإثنين الماضي ندوة بعنوان "الأدب القديم وإشكاليات التلقّي" شارك فيها كل من الأكاديمي والروائي حسين الواد، والباحث والشاعر منصف الوهايبي من تونس، والناقد العراقي عبد الله إبراهيم، فيما أدار النقاش الأكاديمي التونسي عادل خضر وكانت له هو الآخر مساهماته باعتباره متخصّصاً هو أيضاً في الأدب العربي وباحثاً فيه.

أثار خضر، في بداية الندوة، مجموعة قضايا في شكل أسئلة، بداية بأثر المسافة الزمنية الطويلة على التذوّق، وهل علينا أن نفهم الشعر القديم كما فُهم في زمنه، أي هل أننا مطالبون بالعودة إلى هذا المعنى الأول، أم يجدر بنا أن نجعل النصوص تهاجر إلى عصرنا، ونؤوّلها خدمة للذائقة الحديثة؟ ثم، هل يشعر القارئ -بمن في ذلك الباحث- بهذه المسافة؟ يرى خضر هنا أن "من خصائص الأدب أنه لا يستهلكه جمهوره الأوّل وحده بل يظلّ متاحاً للتلقي في كل العصور" مشيراً إلى أن "النظريات الأدبية الحديثة كانت هي الأخرى سبلاً للعودة للنص الأدبي القديم وإعادة شحنه بالمعنى".

من جهته، يقول حسين الواد: "إن سؤال المسافة الزمنية التي تفصلنا عن الأدب القديم، تثير مسألة أعمّ تتعلّق بإشكاليات الأدب بشكل عام، بداية بمسألة المرجع، فنحن حين نقرأ القصيدة القديمة لا يعنينا الكثير أي تشبيه اختاره الشاعر لوصف عيون الحبيبة، حتى أن كثيرين قالوا بأن الشعر القديم بات يهمّ المؤرّخ أكثر من الباحث الأدبي، وهي مقاربة تغيب عنها خصوصية الكائن الأدبي، حيث إن الأدب خطاب ليس كسائر أنواع الخطاب، فهو نتاج المخيلة فلا يمكن ربطه بواقع موجود، بل ينتمي إلى واقع متوهّم، وأو بعبارة شعرية إلى واقع منشود، أي أنه بلا مرجع ثابت".

يرى الواد أن مسألة تلقّي الأدب القديم اليوم تحيل أيضاً إلى إشكاليات تتعلّق بالنقد الأدبي في العالم العربي اليوم، متسائلاً: "هل أسّسنا منهجيات خاصة بنا لدراسة هذا الأدب؟"، يجيب قائلاً: "علينا أن نعترف أننا ما زلنا تلاميذ للغرب ونحن نعود إلى نصوصنا القديمة بالاستعانة بنظرياته، وأفضلنا تلميذ نجيب".

يعتبر منصف الوهايبي من جانبه أن "الأدب العربي القديم مصطلح نديره على ألسنتنا بيسر وسهولة، ونتصوّر أنه لم يعد يحتاج إلى إبانة وتوضيح، ونفس الأمر ينطبق على ما يسمّى بالأدب العربي الحديث". يشير الوهايبي إلى ما يسمى بالأدب القديم يختلف باختلاف الثقافات، فلا يعني الشيء نفسه في الثقافة الفرنسية أو الألمانية أو الإنلكيزية وهي ثقافات أدبها لا يتجاوز الثمانية قرون، في حين أن تاريخ الأدب العربي يعود إلى ما هو أبعد بكثير، كما يلفت إلى أنه لم تحدث قطيعة لغوية بين الأدب القديم والأدب الحديث، كما هو الحال مثلاً مع أدب اليونان، فلغة سوفكليس وأسخيليوس ليست اللغة التي استعملها في عصرنا ريتسوس وكفافيس.

تناول الوهايبي أيضاً مجموعة من القضايا اللغوية الخاصة بالعربية، حيث يرى أن "العربية نشأت أساساً في الشعر، وأن النحو العربي هو نحو الشعر في الأصل، وأن العربية التي نعنيها لم تكن لغة المعيش، وهو اعتقاد خاطئ رسّخته المسلسلات وهي تستعيد تلك الفترات". يختم الوهايبي مداخلته بالقول: "نحتاج اليوم إلى إعادة ترتيب علاقتنا مع الأدب، قديمه وحديثه" مشيراً إلى أن التقسيمات بين قديم وحديث تظلم الأدب بالإضافة إلى التقسيم شعر/نثر والتي هي بحسبه "قسمة ضيزى".

كلمة الناقد العراقي عبد الله إبراهيم تناولت السرد في الأدب العربي القديم، واهتم بالخصوص بعوامل كثيرة جعلت من المادة السردية منقوصة وغير قابلة للدرس، أوّلها اندثار المرويات السردية الأولى للعرب، والتي يسميها بـ"أوابد العرب"، وقد كان ظهور الإسلام عاملاً أساسياً في اضمحلالها حيث وُصفت بـ"أساطير الأوّلين"، وهذا الوضع، بحسب إبراهيم، جعل ألا يكون لها حظ في التدوين، وهكذا لم تتوفر فيها الأركان الأساسية للمادة السردية ولم يبق منها سوى إشارات في كتب الأخبار.

يعتبر إبراهيم أن "هذه المرويات كان يمكن أن تكون معادل ملاحم الشعوب الأخرى مثل الإلياذة اليونانية والمهابهاراتا الهندية"، وهذا السياق التاريخي يفسّر غياب العرب عن كتاب "الغصن الذهبي" لـ جيمس فريزر. يعقّب هنا عادل خضر بأن ما حدث مع المرويات العربية القديمة يمثّل في حدّ ذاته نوعاً من أنواع التلقي، والذي تتفاوت درجاته بين النقل الكامل والحذف.

يتابع الناقد العراقي حديثه حين يلفت إلى إشكالية أخرى تتعلق بكتاب "ألف ليلة وليلة" لافتاً إلى أنه "ذُكر نادراً في المدوّنة النقدية القديمة، مستشهداً بتقييم ابن النديم في "الفهرست" بأنه "كتاب غث بارد الحديث"، وهي دليل على أن الكتاب لم يقبل في الثقافة الرسمية العربية إلى أن بعثه الغربيون حين أتوا مستشرقين إلى بلادنا، ليصبح بعد ذلك الكتاب على كل لسان، وإن حدث أن عرف تضييقات في النشر حتى في الزمن الحديث". يعقّب إبراهيم قائلاً: "بقي كتاب "ألف ليلة وليلة" في حضارتنا كتاباً ليلياً في تناسب مع وضعية شهرزاد التي كانت تسكت مع ضوء النهار".

تلفت هذه المشاركات إلى تفاوت في تلقي الأدب القديم اليوم، وتمثّل قضاياه، وإذا كنا نلمس هذا التفاوت بين متخصّصين فكيف هو الحال بين شرائح أوسع من القرّاء؟ هناك حيث المنطقة الحقيقية لاستمرار الأدب القديم في الحياة، فهل جرى التفكير في تقبّل القارئ العادي لنصوص الأدب القديم، وتوفير مفاتيح يفكّ بها شيفراته ويتذوّق جمالياته؟ لعل المسؤولية الأساسية التي تقع على عاتق الباحثين في الأدب لا تتمثل في إنتاج دراسات وأطروحات حوله بقدر إعطاء الأدب فرص حياة متجدّدة.

المساهمون