ما أن يقبل شهر رمضان حتى يتحول التلفزيون المصري إلى منصة لبث إعلانات التسول باسم المرضى والفقراء. تستفز هذه المؤسسات التي تنظم حملات جمع المال، جميع المواطنين. واستناداً إلى فرضية الزكاة، تتوجه تلك المؤسسات لكسب تعاطف الناس لتحويل زكاتهم إليها.
الحملة التي تبدأ مع بداية الشهر الكريم ليست جديدة. فمنذ عشر سنوات، انطلقت وأصبحت عنواناً عريضاً للبث التلفزيوني الرمضاني. تستغل المؤسسات الشهر، للترويج لنفسها وتكرر وكالات الإعلان بث موادها. في الخلفية، تلقى الحملات هذه، ترحيباً من دوائر السلطة ومن يسيطرون على الثروات والموارد، على اعتبارها الحل للمآسي الاجتماعية التي يمر بها الشعب المصري، وتتلخص في أن يتبرع الشعب للشعب، أو يوجه الزكاة إلى أنشطة تكفل إطعام المساكين، وكساء الأيتام.
فقد تناول أحد الإعلانات بث مشاهد لأشخاص يبحثون عن الطعام في صندوق القمامة، ويرفعون شعار "اكفل قرية مصرية". قرية بأكملها لا أسرة فقيرة.
مؤسسات أخرى، تقدم الخدمات العلاجية بوصفها المنقذ ومقدم الخدمة العلاجية والطبية، وكأنها البديل عن القطاع الصحي. وهكذا يراد أن تُفهم الصورة وأن يُشكل الوعي. فيما مؤسسة ثالثة، تتفاخر بأنها قامت بتوصيل ومد شبكات المياه والصرف الصحي إلى مئات الأسر، وتحتاج الدعم للاستمرار في تقديم الخدمة، طالبة الدعم من المحسنين.
ناهيك عن المؤسسات التي توسعت في اختصاصاتها. فعلى سبيل المثال، تتخيل إحدى هذه المؤسسات أنها قادرة على مواجهة مشكلة العشوائيات، وحل أزمة السكن في أحزمة الفقر، فيبدأ مؤسسها بجمع التبرعات لهذا الغرض. لا شك أن المشكلة الكبرى للمؤسسات الخيرية، تكمن في أنها توظف العمل الخيري لتسويق فكرة، مفادها أنها قادرة على ملء الفراغ الذي تركته الدولة حين تخلت عن مسؤوليتها الاجتماعية، أو أدوارها في تقديم خدمات السكن والصحة أو مكافحة الأزمة الغذائية التي تمر بها مصر. فهذا التصور بلا شك فيه الكثير من المغالطات. فبلد ضخم مثل مصر بعدد سكانه وامتداده الجغرافي، لا تستطيع الجمعيات الأهلية ورغم أدوار بعضها الإيجابي والهام، في أن تستبدل نفسها بجهاز الدولة. فهذه التبرعات مهما بلغ حجمها لن تؤدي إلى حل مشاكل الخدمات أو تحسين ظرف المجتمع لدولة بحجم مصر. كما أن الشعب المصري لا يفتقد إلى القدرات والإمكانيات والطاقات التي تجعله يعيش بكرامة، بلا قروض أو تسول أو استغلال لظروف وأحوال الفقراء. لكن من يحكمون بلادنا، وحكموها سابقاً، أهدروا مواردها، ونهبوا ثرواتها.
لا يشكل الاكتتاب الشعبي جرماً، ولا يعارضه وطني، لكنه يتطلب شروطاً لنجاحه. إذ أن الاكتتاب الشعبي شيء والتسول شيء آخر. ولذا فإن التسول الممزوج بتزييف الوعي، يخفي رغبة في التهرب من المسؤوليات، وتزييف وعي المجتمع وطرح حلول وهمية.
اقــرأ أيضاً
في الثمانينات من القرن الماضي، استخدم مبارك أسلوب التبرع كحل لأزمة الاقتصاد، حاول استغلال المشاعر الوطنية محاولاً كسب التعاطف الشعبي، فأطلق "حملة تسديد الديون"، ثم جاءت مبادرات عديدة في ذات السياق. ثم أصبح اقتصاد الإحسان والتسول النمط السائد. اعتمدت مصر على القروض والمنح والمساعدات من مؤسسات ودول عربية وأجنبية. داخلياً، أنشأ الرئيس عبد الفتاح السيسي، وتولى بنفسه صندوق "تحيا مصر"، الذي ترافق مع عبارة "صبح على مصر ليتبرع كل مواطن بجنية كل صباح"، بينما يدفع السائح دولاراً يومياً. فشلت تجربة الصندوق في جمع ما طمح إليه السيسي، ولم تختلف ردود الأفعال. هكذا اتبعت مصر منهجاً للتعامل مع الأزمة الاقتصادية بالاقتراض والإحسان. ودخلت الدولة في شهر رمضان على خط المنافسة بين مؤسسات العمل الخيري. وبجانب اقتصاد الإحسان والاقتراض والمنح والقروض، ظهر اقتصاد التسول، اقتصاد مد الأيدي للمواطنين، لتنقلب الآية وتتغير الأدوار، وتطلب الدولة دعم المواطنين لكفالة المواطنين.
(باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية)
فتوظف سيدة عجوز "السيدة زينب" لتكون أداة لدغدغة المشاعر لأنها السيدة التي تبرعت بقرطها لصندوق "تحيا مصر". وبعيداً عن التوظيف للواقعة، أو حتى الطابع السينمائي فيها، إلا أنه يمكن أن نلاحظ خيبة هذا النظام، حتى السلطة تستغل شهر رمضان لتوظيف فكرة الزكاة والعمل الأهلي والخيري لصالحها.
نرى، إعلانات هنا وهناك عن مكافحة الجوع، وتوفير وجبات للمصريين في رمضان، بينما لا يجيبك أحد أو ربما يتهرب من الإجابة عن الأسباب التي أدت إلى المجاعة؟ وكيف أُهملت مناطق وأصبحت في ظل التهميش، فأحزمة الفقر تحيط القاهرة وتطوقها.
يحدثونك عن بناء الدولة، ودورها، وهيبتها، والحفاظ عليها من أهل الشر ومحاولاتهم لهدمها، فيما الواقع يشير إلى أن الدولة نفسها تعمد إلى جمع الأموال من المواطنين الفقراء، وتخشى من فرض الضرائب على حيتان المال، التي نهبت ومازالت تنهب ثروات مصر وتتمتع بها، لا بل أكثر من ذلك، تقوم الدولة بسجن من يكافح الفساد أمثال "هشام جنينة" وتقمع الصحافة حين يعلو صوتها، وتقمع عمال المصانع حين يطالبون بحقوقهم، بل تحولهم للمحاكمات العسكرية كما حدث مع عمال الترسانة البحرية في الإسكندرية.
تدخل الدولة مرحلة التسول أو الاعتماد على مبدأ التكافل بين الناس لحل مشاكل المجتمع، فيما لاتزال الأزمة الاقتصادية وتجلياتها الاجتماعية من نقص الخدمات أو الفقر بلا حلول سوى عن طريق التسول والتبرع والمنح والقروض.
(باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية)
اقــرأ أيضاً
الحملة التي تبدأ مع بداية الشهر الكريم ليست جديدة. فمنذ عشر سنوات، انطلقت وأصبحت عنواناً عريضاً للبث التلفزيوني الرمضاني. تستغل المؤسسات الشهر، للترويج لنفسها وتكرر وكالات الإعلان بث موادها. في الخلفية، تلقى الحملات هذه، ترحيباً من دوائر السلطة ومن يسيطرون على الثروات والموارد، على اعتبارها الحل للمآسي الاجتماعية التي يمر بها الشعب المصري، وتتلخص في أن يتبرع الشعب للشعب، أو يوجه الزكاة إلى أنشطة تكفل إطعام المساكين، وكساء الأيتام.
فقد تناول أحد الإعلانات بث مشاهد لأشخاص يبحثون عن الطعام في صندوق القمامة، ويرفعون شعار "اكفل قرية مصرية". قرية بأكملها لا أسرة فقيرة.
مؤسسات أخرى، تقدم الخدمات العلاجية بوصفها المنقذ ومقدم الخدمة العلاجية والطبية، وكأنها البديل عن القطاع الصحي. وهكذا يراد أن تُفهم الصورة وأن يُشكل الوعي. فيما مؤسسة ثالثة، تتفاخر بأنها قامت بتوصيل ومد شبكات المياه والصرف الصحي إلى مئات الأسر، وتحتاج الدعم للاستمرار في تقديم الخدمة، طالبة الدعم من المحسنين.
ناهيك عن المؤسسات التي توسعت في اختصاصاتها. فعلى سبيل المثال، تتخيل إحدى هذه المؤسسات أنها قادرة على مواجهة مشكلة العشوائيات، وحل أزمة السكن في أحزمة الفقر، فيبدأ مؤسسها بجمع التبرعات لهذا الغرض. لا شك أن المشكلة الكبرى للمؤسسات الخيرية، تكمن في أنها توظف العمل الخيري لتسويق فكرة، مفادها أنها قادرة على ملء الفراغ الذي تركته الدولة حين تخلت عن مسؤوليتها الاجتماعية، أو أدوارها في تقديم خدمات السكن والصحة أو مكافحة الأزمة الغذائية التي تمر بها مصر. فهذا التصور بلا شك فيه الكثير من المغالطات. فبلد ضخم مثل مصر بعدد سكانه وامتداده الجغرافي، لا تستطيع الجمعيات الأهلية ورغم أدوار بعضها الإيجابي والهام، في أن تستبدل نفسها بجهاز الدولة. فهذه التبرعات مهما بلغ حجمها لن تؤدي إلى حل مشاكل الخدمات أو تحسين ظرف المجتمع لدولة بحجم مصر. كما أن الشعب المصري لا يفتقد إلى القدرات والإمكانيات والطاقات التي تجعله يعيش بكرامة، بلا قروض أو تسول أو استغلال لظروف وأحوال الفقراء. لكن من يحكمون بلادنا، وحكموها سابقاً، أهدروا مواردها، ونهبوا ثرواتها.
لا يشكل الاكتتاب الشعبي جرماً، ولا يعارضه وطني، لكنه يتطلب شروطاً لنجاحه. إذ أن الاكتتاب الشعبي شيء والتسول شيء آخر. ولذا فإن التسول الممزوج بتزييف الوعي، يخفي رغبة في التهرب من المسؤوليات، وتزييف وعي المجتمع وطرح حلول وهمية.
في الثمانينات من القرن الماضي، استخدم مبارك أسلوب التبرع كحل لأزمة الاقتصاد، حاول استغلال المشاعر الوطنية محاولاً كسب التعاطف الشعبي، فأطلق "حملة تسديد الديون"، ثم جاءت مبادرات عديدة في ذات السياق. ثم أصبح اقتصاد الإحسان والتسول النمط السائد. اعتمدت مصر على القروض والمنح والمساعدات من مؤسسات ودول عربية وأجنبية. داخلياً، أنشأ الرئيس عبد الفتاح السيسي، وتولى بنفسه صندوق "تحيا مصر"، الذي ترافق مع عبارة "صبح على مصر ليتبرع كل مواطن بجنية كل صباح"، بينما يدفع السائح دولاراً يومياً. فشلت تجربة الصندوق في جمع ما طمح إليه السيسي، ولم تختلف ردود الأفعال. هكذا اتبعت مصر منهجاً للتعامل مع الأزمة الاقتصادية بالاقتراض والإحسان. ودخلت الدولة في شهر رمضان على خط المنافسة بين مؤسسات العمل الخيري. وبجانب اقتصاد الإحسان والاقتراض والمنح والقروض، ظهر اقتصاد التسول، اقتصاد مد الأيدي للمواطنين، لتنقلب الآية وتتغير الأدوار، وتطلب الدولة دعم المواطنين لكفالة المواطنين.
(باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية)
فتوظف سيدة عجوز "السيدة زينب" لتكون أداة لدغدغة المشاعر لأنها السيدة التي تبرعت بقرطها لصندوق "تحيا مصر". وبعيداً عن التوظيف للواقعة، أو حتى الطابع السينمائي فيها، إلا أنه يمكن أن نلاحظ خيبة هذا النظام، حتى السلطة تستغل شهر رمضان لتوظيف فكرة الزكاة والعمل الأهلي والخيري لصالحها.
نرى، إعلانات هنا وهناك عن مكافحة الجوع، وتوفير وجبات للمصريين في رمضان، بينما لا يجيبك أحد أو ربما يتهرب من الإجابة عن الأسباب التي أدت إلى المجاعة؟ وكيف أُهملت مناطق وأصبحت في ظل التهميش، فأحزمة الفقر تحيط القاهرة وتطوقها.
يحدثونك عن بناء الدولة، ودورها، وهيبتها، والحفاظ عليها من أهل الشر ومحاولاتهم لهدمها، فيما الواقع يشير إلى أن الدولة نفسها تعمد إلى جمع الأموال من المواطنين الفقراء، وتخشى من فرض الضرائب على حيتان المال، التي نهبت ومازالت تنهب ثروات مصر وتتمتع بها، لا بل أكثر من ذلك، تقوم الدولة بسجن من يكافح الفساد أمثال "هشام جنينة" وتقمع الصحافة حين يعلو صوتها، وتقمع عمال المصانع حين يطالبون بحقوقهم، بل تحولهم للمحاكمات العسكرية كما حدث مع عمال الترسانة البحرية في الإسكندرية.
تدخل الدولة مرحلة التسول أو الاعتماد على مبدأ التكافل بين الناس لحل مشاكل المجتمع، فيما لاتزال الأزمة الاقتصادية وتجلياتها الاجتماعية من نقص الخدمات أو الفقر بلا حلول سوى عن طريق التسول والتبرع والمنح والقروض.
(باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية)