في أيار/ مايو الماضي، رحل المطربُ والموسيقيُّ الجزائري حميد شريّط (1947 - 2020)، المعروف باسم إيدير، في باريس التي استقرّ بها منذ منتصف السبعينيات، ولم يعُد بعدها إلى الغناء في بلده الأُمّ إلّا بعد أربعين عاماً؛ حين قدَّم عام 2015 حفلاً خلال تكريم شعبي له في مسقط رأسه؛ قرية آيت لحسن بولاية تيزي وزّو، ثمّ حفلَين في الجزائر العاصمة في 2018.
كانت تلك القطيعةُ الطويلة بمثابة موقفٍ احتجاجي ذي أبعاد ثقافية وسياسية؛ فالمطرب الأمازيغي، الذي اشتهر مطلع سبعينيّات القرن الماضي بأُغنية "أفافا ينوفا"، إنما كان يحتجُّ بذلك على عدم اعتراف السلطة الجزائرية بالهوية والثقافة الأمازيغيّتَين مِن جهةٍ، وعلى ما شهدته البلاد من تجاوُزاتٍ لحقوق الإنسان خلال "العشرية السوداء" في التسعينيات مِن جهةٍ أُخرى، وبين هذا وذاك كان يحتجُّ على السُّلطة نفسها، والتي ظلَّ يسائل شرعيتها، بسبب "استيلاء أشخاص استغلّوا نضالات الجزائريّين على السلطة بالقوّة والدبابة"، كما قال في أحد حواراته الصحافية.
إلى جانب تجربته الفنّية الممتدّة طيلة قرابة نصف قرن والتي صنعت منه "سفيراً للأغنية الأمازيغية" في العالم، أكسَبت تلك المواقفُ إيدير صفةَ الفنّان الملتزِم وأضفت على اسمه رمزيةً تجعلُ منهُ فنّاناً "أزلياً". وهذا التعبير استخدمه الصحافيّان اعمر وعْلي وسعيد قاصد عنواناً لكتابهما الصادر حديثاً عن "منشورات كوكو" في الجزائر، والذي يُضيء على سيرة الفنّان الراحل، استناداً إلى شهاداتٍ قدّمها عددٌ من أقاربه وأصدقائه، ومقابلاتٍ صحافية أجراها مع وسائل إعلامية.
في "إيدير الأزلي"، يتوقّف وعْلي وقاصد عند أبرز المحطّات في حياة إيدير، ويتتبّعان سيرته بدءاً من طفولته في قرية آيت لحسن بتيزي وزّو وصولاً إلى ما حقّقه من شهرةٍ عالمية، وما بينهما من تجارب وخبرات ومواقف؛ مثل انتقاله مع عائلته للعيش في الجزائر العاصمة حيث كان والده يملك محلّاً للتحف التذكارية، وظهور ميوله الموسيقية في وقت مبكر؛ حيث كان يعزف على آلتي القيثارة والمزمار، ثمّ التحاقه بجامعة الجزائر عام 1970 لدراسة الجيولوجيا، واهتمامه بدروس اللغة الأمازيغية التي كان الكاتب والباحث الجزائري مولود معمّري (1917 - 1989) يُقدّمها آنذاك.
يتوقّف العمل عند مواقفه السياسية ونضاله من أجل الهوية الأمازيغية
ويُخصّص العملُ، الذي تضمّن ملحقاً لعددٍ من النصوص الشعرية التي أدّاها إيدير، جانباً للحديث عن قضايا ارتبطت بمسيرة الفنّان الذي غادر الجزائر عام 1975؛ مثل الهجرة وظروف المهاجرين الجزائريّين في باريس، ونضاله من أجل الهوية الأمازيغية، ومواقفه السياسية المتعلّقة بالسُّلطة الحاكمة وحقوق الإنسان في بلده، وتشجيعه الشباب على الاهتمام بالتراث الموسيقي. وفي هذا السياق، يرسم المؤلّفان صورة فنّانٍ كريم ومتواضع لم يكُن يتردّد في دعم الموسيقيّين الشباب.
وتضمّن الكتاب مقدّمتَين، استعاد الكاتب ياسمينة خضرة في الأولى لقاءه بالفنّان الراحل خلال السبعينيّات في مدينة القُلَيعة، غربَي الجزائر العاصمة، وما تركه ذلك اللقاء من ذكريات. وفي الثانية تحدّث الموسيقيُّ عزيز حشلاف عن صداقته مع إيدير، مشيراً إلى أنَّ الكتاب "يستند إلى وثائق متينة تُبرز عوامل نجاح الفنّان في إيصال صوت الأجداد إلى العالَم".