وفي الوقت الذي يتم فيه التنسيق بين الدول المتقدمة بشكل كبير في مجالات الاقتصاد العالمي، والاتجاه نحو منطقة تجارة حرة بين أميركا والاتحاد الأوروبي، لتشكل أكبر تكتل اقتصادي في العالم، نجد أن "أوبك" تفتقد لهذا التنسيق، وتهدر الفرص، من خلال الإصرار على عدم خفض الإنتاج في ظل انهيار الأسعار.
فانخفاض أسعار النفط، وتحسن معدلات النمو في الدول المتقدمة، لن يتبعه انخفاض في أسعار واردات الدول النامية من الدول المتقدمة، وبالتالي فهذا أكبر مظهر من مظاهر عدم عدالة التجارة الدولية، حسب خبراء الاقتصاد.
ففي الوقت الذي يعلن فيه عن زيادة إنتاج الحبوب هذا العام، نجد أن أسعار القمح تزيد بمعدلات تقترب من 20%، والدول النامية تستورد جزءاً كبيراً من غذائها، وخاصة الحبوب.
منذ عقود والدول النامية تطالب بوجود تجارة عادلة وليس تجارة حرة، وذلك لانعدام المنافسة بين الدول النامية والمتقدمة، ومن جهة أخرى، فإن ما تقدمه الدول النامية هو الموارد الأولية، لذلك فحصيلتها من التجارة الدولية محدودة، وثمة مطالبات بأن تعاد عملية تسعير المواد الأولية في السوق العالمي، من أجل تحقيق عائد مجز للدول النامية، يمكّنها من تحسين الإنفاق العام على شعوبها.
لقد أخلت الدول المتقدمة، وعلى رأسها أوروبا وأميركا، في الوفاء بعهودها التي قطعتها على نفسها لإغراء الدول النامية من أجل التوقيع على إنشاء منظمة التجارة العالمية في عام 1994، ومن أبرز هذه العهود نقل التكنولوجيا من الدول المتقدمة إلى الدول النامية، وإلغاء الدعم المقدم لقطاع الزراعة في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وكان من أبرز الأسباب التي تزرّعت بها أميركا والاتحاد الأوروبي بتأجيل إلغاء الدعم المقدم لقطاع الزراعة، التأثير السلبي اجتماعياً على مواطني هذه الدول، إذا ما تم إلغاء الدعم، وكأن شعوب الدول النامية لا تتأثر اجتماعياً بتوقيعها على اتفاقية منظمة التجارة العالمية، التي فتحت أسواق الدول النامية أمام المنتجات الغربية بلا ثمن.
وقد دفعت الدول النامية الكثير جراء توقيعها على اتفاقية إنشاء منظمة التجارة العالمية، حيث انهارت معظم الصناعات للدول النامية، وتحول المصنعون بها إلى الاستيراد من الدول المتقدمة، وفقد العديد من العاملين في الدول النامية وظائفهم نتيجة هذه السياسات.
ترويج الوهم
إن إدارة "أوبك" لأزمة انهيار أسعار النفط سياسية في المقام الأول، حسب خبراء في قطاع الطاقة، ولا تأخذ الجوانب الاقتصادية والاجتماعية في اعتبارها. إن ميزانيات كافة الدول المصدرة للنفط، ستتأثر بلا شك بانخفاض أسعار النفط، بغض النظر عما يتوفر لديها من احتياطيات أو صناديق سيادية، ولكن العبرة بأن نسبة انخفاض الأسعار وصلت إلى نحو 50%، وإذا كانت بعض دول الخليج تعلن أن لديها القدرة المالية على تحمل الآثار السلبية لهذا الانخفاض، فإن كافة دول "أوبك" وغيرها من الدول النفطية لديها مشكلات تتعلق بالميزانية، وتأثر إنفاقها الاقتصادي والاجتماعي سلباً بانخفاض في الأسعار محقق، إذا ما استمرت أوضاع سوق النفط على هذه الأسعار المتدنية.
وأظهرت الموازنة السعودية لعام 2015 ارتفاع الإنفاق الحكومي لمستوى قياسي بلغ 860 مليار ريال (229.3 مليار دولار)، متوقعة عجزاً للمرة الأولى في 6 سنوات بقيمة 145 مليار ريال (38.6 مليار دولار) بفعل تراجع أسعار النفط.
وتأتي تصريحات رئيسة صندوق النقد الدولي، كريستين لاجارد، مطلع ديسمبر/كانون الأول الحالي، لتصب في صالح الدول المتقدمة، بقولها "سيكون هناك من سيربح ومن سيخسر، ولكن في المحصلة النهائية يعتبر انخفاض أسعار النفط خبرا جيدا بالنسبة للاقتصاد العالمي". وأضافت "مع فرض أن أسعار النفط ستنخفض بنسبة 30%، من المرجح أن تنمو الاقتصادات المتقدمة بنسبة 0.8% إضافية، لأن جميعها دول مستوردة للنفط".
لكن رئيسة صندوق النقد الدولي لم تتطرق إلى الخسائر التي منيت بها الدول المصدرة للنفط، فبيانات الصندوق تشير إلى أن مساهمة الدول المتقدمة في الناتج المحلي العالمي بلغت 40%، بينما نصيب الدول النامية والصاعدة بلغ 60%، ليعد الترويج إلى أن انخفاض أسعار النفط بنسبة 30% سيكون في صالح الاقتصاد العالمي، ليس في محله، حسب خبراء الاقتصاد،
ويبدو أن صندوق النقد الدولي لا يزال يؤمن بنظرية "تساقط ثمار النمو"، التي ثبت فشلها خلال الفترة الماضية، حيث إن ازدهار اقتصاديات الدول المتقدمة ليس مرفوضاً، ولكن ينبغي ألا يكون على حساب الدول النامية.
إذا كانت أسعار النفط قد شهدت ارتفاعًا على مدار عدة سنوات، وهي الآن تشهد انخفاضاً وصل إلى نسبة تقترب من 50%، فلا بد من سعر عادل يؤدي إلى تحقيق مصالح المنتجين والمستهلكين، بينما لا يختلف اثنان على أن معدل الانخفاض الحالي كبير، ولكن المذهل في الأمر أن تصر (أوبك) على استمرار حصة الإنتاج وعدم تخفيضها عن مستوياتاها الحالية البالغة 30 مليون برميل يومياً، من دون وضع حد لانخفاض الأسعار.
وعكس أداء (أوبك) خلال أزمة انهيار الأسعار الحالية، غياب التنسيق فيما بين أعضائها لتحقيق مصالح مشتركة، فشعوب الدول النفطية هي من ستدفع ثمن عدم خفض الإنتاج من نقص في الخدمات وتراجع في الإنفاق الحكومي.
ويبدو أن السيناريوهات الأكثر تفاؤلا تشير إلى أن سعر برميل النفط لن يتجاوز 80 دولاراً خلال العام المقبل، وهو ما يقل أيضا بنحو 30% عن مستويات الأسعار حتى نهاية النصف الأول من العام الحالي الذي سجل 115 دولاراً للبرميل.
وكان مندوبون لدى (أوبك)، قالوا مؤخراً إن المنتجين العرب في المنظمة يتوقعون تعافي السعر إلى ما بين 70 و80 دولاراً للبرميل بنهاية 2015، مع انتعاش الطلب بفضل تعافي الاقتصاد العالمي.
- إضاعة الفرصة
عكس أداء أوبك خلال أزمة انهيار أسعار النفط الحالية غياب التنسيق فيما بين أعضاءها لتحقيق مصالح مشتركة، فالاستمرار في قرار عدم تخفيض الانتاج ليس إلا هدرًا لثروات تلك الشعوب، لتدفع الشعوب ثمن ولاء الحكومات للغرب وأمريكا من نقص في الخدمات وتراجع في الإنفاق، ينتظر أن يتحقق خلال الفترة المقبلة.
إن الأداء الطبيعي أن يكون قرار خفض الإنتاج على الأقل من قبل الدول التي تزعم بأن انخفاض أسعار النفط لن يؤثر على انفاقها لوجود فوائض لديها من سنوات سابقة، ولكن أن يكون ذلك سلوك جميع الدول فمعنى هذا أنه إضاعة للفرصة البديلة بالحصول على عوائد أفضل مما هو عليه الآن.
وفي الوقت الذي يتم فيه التنسيق بين الدول المتقدمة بشكل كبير في مجالات الاقتصاد العالمي، والاتجاه نحو منطقة تجارة حرة بين أمريكا والاتحاد الأوروبي، لتشكل أكبر تكتل اقتصادي في العالم، نجد أن الدول النامية، والتي تعتبر "الأوبك" نموذجًا لها تفتقد لهذا التنسيق، وتهدر الفرص للمبادئ التي ظلت تنادى بها ولا تعمل لها على مدار العقود الماضية.
إن خفض أسعار النفط وتحسن معدلات النمو في الدول المتقدمة، لن يتبعه انخفاض في أسعار
واردات الدول النامية من الدول المتقدمة، وبالتالي فهذا أكبر مظهر من مظاهر عدم عدالة التجارة الدولية، ففي الوقت الذي يعلن فيه عن زيادة إنتاجية الحبوب هذا العام نجد أن أسعار القمح تزيد بمعدلات تقترب من 20 %، والدول النامية تستورد جزءًا كبيرًا من غذائها للأسف، وبخاصة الحبوب.
إن من صالح الدول المتقدمة أن يخرج بعض ممثلي "الأوبك" ليعلن أن ما يحدث في سوق النفط هو تفعيل لآلية العرض والطلب، وأنهم لن يتدخلوا للتأثير في السوق، وهو ما تريده الدول المتقدمة من التأكيد على مبدأ التجارة الحرة، التي تزيد فيها مصالحها، بينما التجارة العادلة التي تريدها الدول النامية، فمجالها الندوات والمؤتمرات التي تتباكى فيها الدول النامية على أزمتها الاقتصادية.
فالموارد الاقتصادية للدول النامية ومن بينها النفط ليست ملكًا للأجيال الحالية لتتصرف فيها كيفما شاءت ولكن هي ملك للأجيال القادمة، وبخاصة أن الدول النامية تفتقد إلى تكنولوجيا توليد الطاقة من المصادر البديلة للوقود الأحفوري، مما يعني أن الدول المصدر للنفط حاليًا قد تكون مستوردة للطاقة بشكل كبير في المستقبل، وهو احتمال تؤدي إليها آلية عمل منظمات الدول النامية مثل "الأوبك" وأخواتها.