"أهل الهوى".. عن الوطن الذي كالحبّ، لا يطارَح بالقوة

14 سبتمبر 2015
(بيروت: دار النهار، 1993)
+ الخط -
مثل وخز الإبر الصينيّة، عالجت هدى بركات في روايتها "أهل الهوى"، الصادرة في 1993 عن دار النّهار، الحرب الأهلية اللبنانية. عالجتها لا مرورًا بصوت طلقات البنادق، أو بالقفز بين الجثث، وركام البيوت. لا عبر من أطلق الزناد، ولا من تلقى الرصاص أو نجا، لا بهذا المنغمس في الحرب، بل بذاك الذي نأى بنفسه مشيحًا بقلبه عنها، مستقويًا بضعفه وخوفه، ومتشبثًا أخيرًا بخفّة عقله ليبقى بعيدًا. مثل وخز الإبر الصينية، إذ تشكّها في الهوامش، فتصيب متن المتن‪.

تعرف هدى بركات أن لا أحد ينجو من الحرب. لا أحد يدير لها ظهره، فتصبح الحكاية ببساطة وراءه ليمضي بسلام، هكذا حين اختارت بطل روايتها الذي لم نعرف له اسمًا، عاشقًا من أهل الهوى في زمن الحرب المضطرب، واحدًا من أولئك الذين لم ينخرطوا في الحرب، فضاق بهم المكان، ثم ازداد ضيقًا، إذ يقع الرجل في حب امرأة من طائفة أخرى، فلا يصير يسعهما لا مكانه ولا مكانها، إذ قُسّمت الأرض كقطع الشطرنج أبيض وأسود، وهما بينها. يحاول حامل الهوى الإمساك بزمام عقله وهواه والأمور، وينتهي في مشفى الأمراض العصبيّة والعقليّة. كانت تعرف، أنه لا أحد ينجو، ولا أحد بعيد، كما نظن.

التقيا، بعد فراق قصير، عند "محطة" بين القريتين المتصارعتين. كأنما على الحدود بين مكانين، وعلّقت، بين هنا وهناك، بين هؤلاء وهؤلاء، وهما، المحبان إذ يحتميان بالصخرة والغابة القريبة، وإذ يجمعهما الهوى في غفلة من المكان والزمان، على حدود بين الممكن وغير الممكن، المسموح وغيره، يصلان إلى أقصى الحب المسترق، فيقول: "حين قبّلتها قفزت في الفراغ، اصطكّت ركبتاي، وبعدت الأرض تحتي كثيرًا"، ويقول: "لأوّل مرّة لا أرى جسم المرأة التي أضاجعها… كأني أعمى من أجل أن تأخذ حواسي الأخرى كلّ مداها وأقصى قوّتها". لكن ذروة الحب، بقدر ما كانت شاهقة بقدر ما تعاظم الخوف من سقوط سحيق "كنت هلعًا. لأن أيامًا كثيرة من الصراخ والبكاء والرقص لن تكفي فرحي وندمي، وتقيني من غلبتي وخسارتي نفسي، ندمي الذي لا قعر له، لأن لذة كهذه لن تجيء مرّة أخرى‪."

الحرب التي كانت تدور في الأثناء، تصنع أناساً خائفين، وكذا كان البطل العاشق، رجلٌ خائف جعل من أنثاه وطنه، ولما كانت من غير طائفته فقد صارت هي كل شيء، وطنه الذي يوشك أن يذهب، وطائفته التي تركها خلفه. يحاول الرجل إحكام قبضته على أنثاه فلا تضيع هي الأخرى، فيصير مدفوعاً بخوفه، يحاصرها، يراقبها، يمنعها من مخالطة الناس، ومن الخروج، ويخاف عليها من كل شيء حتى من التلفزيون، ظانّاً أنه بإحكامه القبضة على المادة سيبقي الحب حيث هو، لكن شيئًا ما صار يتسلل من بين جدرانه العالية، وبقي جسد حبيبته اللامبالي، يحاول إحيائه هو بنوبات حبه العنيفة، يذهب معها إلى أقصى الحب فيصل وحده، وينتهي ضعيفًا وغاضبًا "وحتى لا أبكي، وقبل أن أبكي بقليل أنهال عليها ضربًا. أنهال عليها ضربًا فتلتصق بي. أبعدها وأضرب كالأعمى فتلتصق بي بكلّ قوّتها. ثم تحاول ضمّ رأسي إليها. ثم ترتفع عن الأرض إليّ وتضمّني… لا تصرخ، لا تئن.". وحيث لا يمكن للحب أن يُستعاد بانتصار جسدي، فإن هذه الحكاية التي تسردها لنا بركات ليست ذات بعدٍ واحد، كأن الوطن الذي يتم تنازعه هو الآخر بالقوة، كالحب لا يحدث هكذا، ولا يُطارَح بالقوة‪.

أما "هي" محبوبته، فلم يكن صمتها عابرًا أو غير مقصود، كان صمتها مطبقًا وممتدًا طوال الرواية، ففي حين اختارت هدى بركات أن يكون العاشق راوي الحكاية، فقد منحت صوته الكثير من الوقت والتفسير، أما هي التي صورة الآخر، القابع في الضفة الأخرى، الذي لا صوت له عندنا، لأنه لا صوت يعلو فوق صوت الحق/ الطائفة/ التلفاز، فقد اختارت بركات لها هذا الصمت المشحون بالمعنى. كانت تتحرك من دون أن تقول شيئًا، من دون حتى أن ينقل لنا هو على لسانها شيئًا، إلا من كلمات حيادية نادرة، هي القادمة من الضفة الأخرى، كأنها موجودة وغير موجودة، حتى أنه وفي أكثر اللحظات قسوة، حين يقتلها لا نسمع لها صوتًا، فنجده يصف قتلها وكأنه حالة تماهٍ لا حالة انتزاع روح، فيقول: "عرفتُ، حين قتلتها ورأيتُ أنّي قتلتها، أني شربت روحها. أني شربتُ ملاكها فصار فيّ. انفتحت لي السّماء، والفضاء، وانفتح جسمي". هل هذا لأنها من الضفّة الأخرى التي لا نود سماعها؟ أم أنها كما يصير يستدرك أثناء جلوسه في مشفى الأمراض العقلية متشكّكًا ومحدّثًا نفسه "أعرف أني تعبان ومريض في عقلي، لذا حين أعود أحيانًا من نسياناتي الكثيرة، أفكّر بأني لم أقتلها أو أنها غادرت مع انتهاء الحرب وحلول "السلام" عائدة إلى أهلها، إذ عاد كل شيء إلى "نصابه"!

(كاتبة وشاعرة بحرينية)
المساهمون