على طريقة "وشهد شاهد من أهلها"، أكّد وزير الثقافة في الجزائر صحّةَ ما ظلّ لسنواتٍ في حُكم "الشائعة" التي يردّدها الجميعُ من دون أن يستطيع أحد تأكيدها أو دحضها تماماً.
خلال افتتاحه ملتقىً حول "المطالعة وكتاب الطفل" في الجزائر العاصمة مؤخّراً، صرّح عز الدين ميهوبي بأن سبعة آلاف عنوان صدرت بين 2003 و2015 مُكدّسةٌ في مخازن "المكتبة الوطنية" في الجزائر العاصمة، بدل أن تُوزَّع على المكتبات العمومية والجامعات والمدارس والمساجد والمؤسّسات العقابية.
قد لا يشكّل هذا التصريح مفاجأةً صادمة أو كشفاً خطيراً في بلد شهد خلال السنوات الأخيرة جملةً من قضايا الفساد التي مسّت أيضاً بعض كبريات المؤسّسات الاقتصادية، مثل مؤسّسة "سوناطراك" النفطية التي تُؤمّن 98% من عائدات الجزائر من العملة الصعبة.
لكن ضخامة العدد، تؤكّد مآلات مشروعٍ بدأ طموحاً، وعوّلت عليه أطراف العملية القرائية، بدءاً بالكاتب ووصولاً إلى القارئ، مروراً بالناشر والمكتبي، لانتشال سوق النشر من الركود الذي طبعه لسنواتٍ كثيرة. الآن، لم يعُد سرّاً أن ذلك الطموح انتهى في مخزن.
صدرت تلك العناوين بتمويل حكومي منذ 2003، تاريخ تنظيم تظاهرة "سنة الجزائر في فرنسا". وفي 2007، سنة "الجزائر عاصمةً للثقافة العربية"، وصل التمويل الحكومي إلى ذروته؛ إذ شمل "ألف كتاب وكتاب" صدرت بالمناسبة.
غير أن المشروع واجه انتقادات كثيرة؛ من بينها تغليب الكمّ على حساب النوعية، و"إقصاء" عدد من الكتّاب، كما أُخذ على اللجنة التي كُلّفت بانتقاء العناوين، طغيانُ الناشرين عليها، والذين اتُّهموا بـ"استغلال وجودهم في اللجنة لمنح مشاريع لدور نشرهم، وانتهاج المحاباة والتحيّز في اختيار العناوين".
لكن ذلك لم يعنِ بأن المشروع بات مهدّداً بالتوقّف. على العكس من ذلك، ظهرت وزيرة الثقافة آنذاك، خليدة تومي، في أواخر تلك السنة مبتسمةً، لتزُفّ بشرىً سارّةً بعد لقائها الرئيس بوتفليقة. أعلنت الوزيرة أن الرئيس "أبدى ارتياحه لطبع ألف كتاب وكتاب"، وقرّر إعادة التجربة وطبْع العدد نفسه عام 2008، بهدف "إعطاء دفع للمشهد الثقافي والحركية الإبداعية، وتحفيز الجزائريين على القراءة".
استجابت الوزيرة لطلب استبعاد الناشرين من "لجنة القراءة"، وشكّلت لجنة جديدة تضمّ كتّاباً ومثقّفين فقط. ومنذ تلك السنة، أصبح "ألف كتاب وكتاب" تقليداً سنوياً. وإذ كان القائمون على القطاع الثقافي يرون فيه دليلاً على الحركية التي يشهدها عالم النشر في الجزائر، كان الواقع يشير إلى عكس ذلك.
سارت العملية بكثير من الارتجال وقليل من المهنية على أكثر من صعيد: صدرت المئات من الكتب الرديئة على مستوى الشكل والمضمون، وأُعيد نشر كثير من العناوين التراثية والقديمة، في تكرار لما شهدته "عاصمة الثقافة العربية 2007"، والتي كانت قرابة 60% من كتبها قديمة.
أيضاً، أثارت "كعكة" النشر شهية الكثيرين. هكذا، تضاعف عدد الناشرين في غضون سنوات قليلة، فبعد أن كان لا يتجاوز أصابع اليد الواحد قبل 2003، قفز إلى قرابة 1200 ناشر عام 2016، وهو رقمٌ كبير، خصوصاً أن آثاره غائبةٌ عن سوق الكتاب الذي بقي يراوح مكانه.
ليس سرّاً أيضاً، أن الدعم وُجّه في كثير من الأحيان إلى دور نشر لا تستحقه؛ لأنها إما دور نشر كبيرة (بعضها عمومي) يُفترض أنها لا تحتاج إلى تمويل حكومي أصلاً، أو دور لا تعمل إلاّ في المناسبات، أو دور وهمية تستفيد من أموال الدعم من دون أن يرى أحدٌ إصداراتها. هذه المسائلُ مجتمعةً غطّت على قضايا أُخرى لم يُثرها أحد؛ مثل هوامش حرية التعبير والإبداع وحدود الرقابة في كتب تموّلها الدولة، وتمرّ على لجان رسمية.
لعلّ أبرز ما يؤخذ على المشروع برمّته، ما يتعلّق بصيغة التمويل ذاتها؛ إذ عمدت وزارة الثقافة، من خلال "صندوق دعم الإبداع"، إلى دفع تكاليف الطبع مباشرةً إلى دور النشر، بينما يُفترض - بحسب بعضهم - أن يتحمّل الناشرون تكاليف الطبع، ثم تتكفّل الوزارة بشراء إصداراتهم، ومن ثمّ توزيعها على المكتبات العمومية.
لاحقاً، أثبتت هذه الملاحظة صحّتها؛ إذ أفرزت تلك الصيغة وضعاً غريباً؛ فبينما يخرج الناشر من الصفقة مستفيداً من الناحية المالية، لا يحصل الكاتب سوى على الفتات (20% من المبيعات لا تُدفع له غالباً). أمّا القارئ، فلا يستفيد شيئاً، بما أن الكتاب لا يصل إليه في نهاية المطاف؛ إذ تُخلي أطراف العملية مسؤوليتها عن الكتاب بمجرّد خروجه من المطبعة.
أمام هذا الوضع، كان لا بُدّ من شمّاعة جديدة يُعلّق عليها الإخفاق، وكانت الشمّاعة الأنسب لهذه الحالة هي "نقص المكتبات وفضاءات القراءة العمومية"؛ فالمكتبات التي كان عددُها يُقدَّر بـ600 مكتبة بعد الاستقلال، تقلّصت إلى قرابة خمسين مكتبة فقط مع مطلع التسعينيات.
وبالطبع، انخفض هذا الرقم بشكل كبير خلال العشرية السوداء التي شهدت تآكلاً في الفضاءات الثقافية. هكذا، عاد الحديث عن مشروع "مكتبة في كلّ بلدية" الذي انطلق بمرسوم رئاسي عام 2005، ونصّ على إنشاء مكتبات عمومية في كل البلديات البالغ عددها بـ1451 بلدية. أُسند المشروع إلى وزارتي الثقافة والداخلية، لكنه عرف بطئاً في وتيرة إنجازه.
مع اقتراب استكماله، واجه المشروع واقعاً جديداً يتمثّل في سياسة "التقشّف"، أو إرشاد النفقات العمومية، التي باشرتها الحكومة منذ ما يقارب السنة، ما يعني أن الكثير من المكتبات التي تمّ إنجازها ستبقى مجرّد هياكل غير مجهّزة.
يضاف ذلك إلى المشكل الرئيسي المتمثّل في التوزيع، والذي استمرّ رغم ما أعلنته الوزارة من إجراءات؛ من بينها استحداث وحدة خاصّة بتوزيع الكتب، تابعة لـ"المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية"، قالت إنها "ستضع حدّاً لهذه المشكلة، وستُوصل الكتاب إلى كل مناطق الوطن".
تُضاف الخطوة إلى "المكتبات المتنقّلة" (تقليد يعود إلى سنة 1955 حين توقّفت "المكتبة الوطنية" عن ممارسة نشاطها) التي تجوب مدناً وقرىً بين الفترة والأخرى؛ آخرها قافلة نُظّمت نهاية العام الماضي تحت شعار "طريقنا إلى المعرفة"، وضمّت 13 حافلة تحوي قرابة 250 ألف نسخة و6000 عنوان، جابت محافظات البلاد بهدف "تشجيع الأطفال والشباب على القراءة".
كانت الوزيرة السابقة خليدة تومي تستشيط غضباً كلّما سُئلت عن مسألة التوزيع. وفي أحد البرامج الإذاعية، ردّت على سؤال عن وجود كتب في مخازن بأن ذلك "كذبة" لا ينبغي تصديقها.
من هنا، ربما، تأتي أهمية تصريحات الوزير الحالي، لأنها تعني اعترافاً بوجود المشكلة، ما قد يسهّل من إيجاد حلول لها، على أمل ألّا يبقى الأمر في مرحلة الاعترافات.
اقرأ أيضاً: الكتاب الجزائري في مضيق النشر العشوائي