حميميّ في مقاربته شخصيات تتنازعها حماسات عائلية. مُضيء في قصّ سيرة كائن متوقّد وعصاميّ، سبق خيار قلبه رغبة شعب انتظر منه نصراً نادراً، لكنه رمى خسارة مدوّية على حلبة مواجهة، كادت تكرّسه أسطورة. مختلف في مشهدياته وإيقاعه وتصنيفه. لا هو حكاية غرام، ولا هو شريط رياضي. وقطعاً، هو ليس فيلماً متهافتاً، يعيد صوغ تواريخ بائِخة.
تطرح باكورة الفنلندي يوهو كوسمانين، "أسعد يوم في حياة أولي ماكي"، الحاصلة على جائزة "نظرة ما"، في الدورة الـ 69 (11 ـ 22 أيار/ مايو 2016) لمهرجان "كان" السينمائي، تساؤلات عديدة: هل غدر الشاب أولي ماكي وعود إمكاناته وحظوظه وعزائمه، أم أن الأنانية طغت على تفضيلاته، كي يغرق في عواطفه، وينسى أضواء هلسنكي وبريق أرستقراطيتها الراضية بضمّه إلى زمرتها ونخبويتها؟
هذه قصة حقيقية عن رجل محظوظ. وُلد عام 1936، وانخرط في الملاكمة منذ عام 1957، وفاز بـ 28 جولة، وخسر في 18 أخرى، منها نزال نهائي ـ الأول في تاريخ البلد ـ مع الأميركي الأسود دافي مور، لنيل لقب دولي بوزن الريشة، في 17 آب/ أغسطس 1962.
الذلّ الذي تلبّس ماكي، حدث في الجولة الثانية، عندما وجّه له منافسه ضربة قاضية، حسمت تاريخه ورجاءات مشجعيه، لتصبح تلك الليلة الأكثر خزياً في تاريخ الفنلنديين، لكنها لدى الشاب المهزوم "أسعد يوم" في حياته.
ما جرى قبل هذه الواقعة، لم يصنع صيتاً رياضياً للبطل، بل كرّس عزاء شخصياً بدأ كـ"مشكلة"، ثم تطوّر إلى مُرادٍ لحياة هانئة. في حمأة تدريباته، و"نضاله" لتخسيس وزنه وضمان قبول أولمبي للياقته، وقبل أيام من النزال الحاسم، ينتبه مدربه أليس أسك (أيرو ميلونوف) إلى تهاونه وفتوره وشرود انتباهه، فيصرخ في وجهه، محذّراً إياه من عواقب غضب مموّليه من نخبة هلسنكي.
يهمس الرياضي المرتبك في أذن مدرّبه: "هل يمكنني أن أكون صريحاً معك؟ أعتقد أني مغرم". يجيبه الرجل المصعوق: "أفي هذه اللحظة الملعونة، تقع في الحب؟". من هنا، يصبح نصّ كوسمانين، المصوّر بالأبيض والأسود، متناً كوميدياً ناصعاً، استدعى روح ستينيات المجتمع "السومي". يتصدّى فيه عالمان، ويتشاحنان، كلّ بحسب نواياه.
بحث ماكي، أولاً، عن وجوده وتأكيد كيانه ورجولته، التي دفعته التزاماتها إلى شراء خاتم خطبته في يوم معركته الرياضية، بينما شدّد الآخر على اعتباراته الإجتماعية، وأنانيته، وانتصاراته، ووعيده بالمقاضاة.
قرع الحبّ قلب ماكي، وتولّه بحب الشابة الرقيقة رايا (أونا إيرولا)، التي أبقت مسافة ذكية بينها، كقيمة عائلية، وعوالم حبيبها، الذي يمثل مشروع فوز وإعادة اعتبار لأمّة مقيمة عند حواف قطب جليدي.
الغريب، أن جماهيرها لم تلعن هزيمته وتقاعسه. فما فعله، بحسب رؤيتها وعقلانيتها، احتفاءٌ بحياته وأسرته المقبلة. وثّقت كاميرا محمولة ـ لمدير التصوير جي ـ بي باسي، مستخدماً شريط 16 ملم، شاع في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، في تصوير أشرطة إخبارية تلفزيونية تحديداً ـ بإيقاعٍ محموم، تفاصيل عائلية منيرة، تعيش موسميات صيف قطبيّ باهر، وغضارة حقول وغابات وبحيرات بكر، وحفلات تستعيد تقاليد جماعية غابرة، فيما رتّب التوليف اللاهث ليوسي راوتانيمي يوميات حبهما ومشاكساتهما الشبابية، وهي خالية من حماقات متعجّلة وشهوات خائبة، تنمو ضِمن فردوس أرضيّ، كقدر أزلي.
يقول كوسمانين، الذي شعر فريق تلفزيوني إسكندنافي بالحرج خلال إنجازه شريطاً إعلانياً عنه، من قصر قامته، وضآلة جسده، إن قصة ماكي (ياركو لاهتي) "لم تكن قطعاً حول خسارة مباراة مقابل الفوز بالحب، بل احتفاء بالعثور على طريقة ذاتية للسعادة، بغضّ النظر عن الحياة ومنابذاتها".
هذا يُفسّر نأيه عن إنجاز مطوّلات بصريّة حول المنازلة، إذ يكمن السعي في "التركيز على أشياء مخبّأة"، مضيفاً أن الفيلم يُقارب "الملاكمة كفعل حياتي يومي، وليس كرمز طاغٍ".
شكّل هذا "العثور" استرجاعاً حصيفاً لمثيلاته في اشتغالات مواطنه، المعلّم آكي كاورسماكي، حيث يتشبّه ماكي في عناده باصرار أيرس، بطلة "فتاة مصنع علب الكبريت" (1990)، واجتهادها في نيل خلاص واعتراف كاملين لعواطفها، بعد هزّة حملها سفاحا.
يحاكي مغامرة النادلة أيونا، في "غيوم هائمة" (1996)، في رفض هزيمة عائلتها، بسبب سياسة تقشف حكومية، جعلت زوجها عاطلاً من العمل. غرام ماكي وحسم مصيره يجمعان، في نهاية مطافهما، الحارس الليلي كويستنين بالشابة أليا، بعد نجاحه في تجاوز وشايات وفتن، عرّضته لمهانات اعتقال، في "أضواء في الغروب" (2006)، القسم الثاني من ثلاثيته الشهيرة "فنلندا".
ورث يوهو كوسمانين (1979) عن صاحب "رجل بلا ماض" (2002) هواجسه الطبقية وحساسياته تجاه غبنها، وعدائه للقوانين التي تحتمي خلفها. بانت هذه الإشارات بوضوح حول ماكي ونجوميته، التي كان أصحاب المال يراعونها ككنز يقودهم، يوماً ما، إلى مجد أولمبي، ولاحقاً إلى ثراءٍ دولي، وهذا هدف أخفاه مدربه أليس قبل أن يتكشّف عن غدر بصداقته، وطعن بثقتها.
فيلم "أسعد يوم في حياة أولي ماكي" ترنيمة "غير مشفّرة"، كما نعتها يوهو كوسمانين، حول كائن متفرّد جسور، أخذ حياته وعواقبها وتخيّراتها على محمل جدّ حاسم، فلم يهادن في مستقبلها، أو يداهن مَنْ سعوا إلى اختراقها.