كثيرة هي الدعوات لانفتاح "التاريخ" على أبعاد أخرى غير البعد الأكاديمي. ولعل دور المجلات التاريخية الرئيسي هو الذهاب بالبحث التاريخي ونتائجه إلى قارئ عادي؛ وأن تغذي، بالمناسبة، النشاط التاريخي الأكاديمي بدماء وآفاق وأضواء جديدة.
"أسطور" دورية تاريخية جديدة، تصدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، تتمثل رؤيتها، في "أنّ التاريخ قد ينفرد عن سائر العلوم الأخرى بكونه علماً في طور التكوّن الدائم، ويستوعب في هذه العملية منهجيات العلوم الأخرى كلّها ومقارباتها في منهجيته المفتوحة" كما جاء في تصدير العدد.
وفي إطار هذه الرؤية، تسعى المجلة إلى "تحفيز البحث التاريخي العربي بمناهجه كافّةً". وتولي "أسطور" اهتماماً خاصّاً "بالبحوث التي تنطلق من طرح الإشكاليات والقضايا والأسئلة الجديدة أو تنطوي عليها، بما في ذلك المعالجات الإيستوريوغرافية الجديدة لتاريخٍ يبدو في الظاهر أنّه منجز".
أول ما يلفت الانتباه في الدورية نصف السنوية الجديدة، هو اسمها. فمصطلح "أُسطور" مما لم تألفه الأذن العربية الحديثة. وقد يذهب بالمتلقي باتجاه التذبذب، حيث أن مصطلح "الأسطورة" الذي نتداوله هو مفهوم مضاد لمفهوم التاريخ (أي ما حدث بالفعل).
في تقديم المركز للمجلة، نجد أنه قد "جرى اعتماد اسم "أسطور" للمجلة بالمعنى اللغوي الذي يطلقه القرآن الكريم "والقلم وما يسطُرون"، وبالمعنى الاصطلاحي الحديث لتأسيس "تاريخ جديد عربي" يتواصل مع الإنجازات العربية الأولى فلا يقطع معها، بل يجدّدها ويطوّرها ويؤسّس لإبداعاتٍ جديدة".
إن مصطلح "أسطور" يعود بنا إلى الجذر "س ط ر" العربي، وهو قريب من كلمة "إيستوري" Istorei اليونانية والذي انبثق منه المصطلح الغربي History بالإنجليزية أو Histoire بالفرنسية. من هذه الروح الاشتقاقية (وهي إحدى عبقريات اللغة العربية) يطرح العدد الأول نفسه على القارئ، كإضافة نوعية في مشهد الدوريات التاريخية في العالم العربي والتي تجاوز عمرها النصف قرن.
مواضيع العدد الأول
تطرق المجلة في عددها الأول أبواباً عدّة. من التاريخ القديم إلى المعاصر، ومن التاريخ الديني إلى التاريخ السياسي، منوّعةً بين البعد العربي والعالمي، مع الاعتناء بالبحث الفكري في علم التاريخ وأدواته من تحقيق للنصوص وعلوم الآثار.
يضمّ العدد دراسة لعمرو عثمان بعنوان "التاريخ العالمي: موضوعه ومناهجه ودراسته من خلال تاريخ الأشياء". يستعرض المؤلف موضوع التاريخ العالمي وأهميته وتطوّره بوصفه تخصّصاً تاريخياً فرض نفسه في أكبر الجامعات الغربية في العقود القليلة الماضية، ولم يلق اهتماماً يُذكر في العالم العربي.
وتعود بنا الباحثة شيرين المنشاوي إلى مصر القديمة في دراسة بعنوان "نظرة المصريين القدماء إلى الماضي". تقدّم المنشاوي محاولات المجتمع المصري القديم لتدوين الماضي وتدريسه في المدارس وتطوير وسائل المحافظة على آثاره.
كما يشتمل العدد على دراسة بلال الأرفه لي وموريس بومرانتز بعنوان "مقامات بديع الزمان الهمذاني: النص والمخطوطات والتاريخ"، وهي رحلة بحث عن نص الهمذاني في التراث المخطوط.
وتعنى دراسة "تاريخ الدراسات المندائية وأبرز المستجدات في دراسة أصول الصابئة المندائيين ومصادر ديانتهم" لصاحبها أحمد العدوي، بتسجيلٍ نقدي للدراسات القيّمة التي أثّرت دون غيرها في اتجاه البحث العلمي بخصوص طائفة الصابئة المندائيين. كما تناقش أصولهم وإلى أيّ عرقٍ ينتمون، ومصادر ديانتهم.
وتهدف دراسة "تمثيل السلطة المركزية والممارسات الاستبدادية: السلطة المحلية في شمال المغرب في عهد السلطان المولى إسماعيل (1672 - 1727)"، للبشير أبرزاق إلى المساهمة في درس نموذج من التنظيم السلطوي المحلي لإقليم شمال المغرب خلال القرن الثامن ميلادي، مع محاولة إبراز بعض وسائل حضور السلطة المركزية في المنطقة وآلياتها.
أمّا دراسة ناصر سليمان "التاريخ الاجتماعي للجواري في مصر قبيل عصر التحديث: نفيسة خاتون المرادية نموذجاً"، فتركّز على التاريخ الاجتماعي من خلال شخصية نسائية تنتمي إلى صفوة نساء المجتمع، في مرحلةٍ شديدة التقلّب وعدم الاستقرار من حياة مصر المملوكية، بين أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر.
يقدّم فراس كريمستي تحت عنوان "حادثة حلب عام 1850: دراسة في أنماط العنف ودوافعه داخل المدينة العربية أثناء الفترة الباكرة للتنظيمات العثمانية" عرضاً لتاريخ الجماعة المسيحية وتفاعلها السياسي في الفترة العثمانية.
وتحت عنوان "المفاوضات بين الوكالة اليهودية والكتلة الوطنية في سورية"، يقدّم محمود محارب قراءةً لأسباب اهتمام الوكالة اليهودية بسوريا وبالكتلة الوطنية خلال الثورة العربية الفلسطينية الكبرى 1936 - 1939.
كما يعرض المفاوضات الرسمية السرّية التي جرت بين الوكالة اليهودية والكتلة الوطنية السورية التي كانت حينئذ تقود نضال الشعب السوري من أجل الاستقلال عن فرنسا، وذلك بالرجوع إلى الأرشيف الصهيوني وما نقله من مراسلاتٍ جرت بين الوكالة اليهودية وشخصيات بارزة في الكتلة الوطنية السورية.
في قسم مراجعات الكتب، نقع على قراءة في كتاب "انبعاث الحدث" للمؤرخ فرانسوا دوس قام بها كل من خالد طحطح ويوسف المهاجر؛ ومراجعةً لكتاب "أخبار أحمد المنصور سلطان المغرب" للكاتب أنطونيو دي صالدانيا من إنجاز إبراهيم القادري بوتشيش؛ ومراجعة لكتاب "بوسبير- البغاء في المغرب الكولونيالي: إثنوغرافيا حي محجوز" لجان ماتيو J. Mathieu وموري .P. H. Maury وضعها يحيى بن الوليد؛ ومراجعةً كتاب "تاريخ الكفار: الصراع بين عالم المسيحية وعالم الإسلام" لأندرو هويتكروفت قام بها عماد الدين عشماوي.
ويختتم العدد بقسم الوثائق والنصوص. وفيه يعرض عبد الرحيم بنحادة وثيقة تاريخية هي رسالة السلطان أحمد الأوّل إلى الأمير زيدان السعدي، بتاريخ صفر 1026هـ / 1617م، إثر الصراع الذي دار بين أبناء المنصور السعدي حول العرش وتوجُّه الأمير زيدان لطلب الدعم العثماني.
تحديات الدوريات التاريخية العربية
"أسطور" تبشر، عبر هذه الباقة من الدراسات التي تضمّنها العدد الأول، بتنوّع محمود وانغراس في التربة العربية. بقي لها أن تجابه تحديات أخرى طالما أوهنت أداء الدوريات التاريخية العربية، بدايةً بضعف أثرها على الجمهور الموسع لاعتبارات عدة، منها توجهها المفرط لتوفير المقاييس الأكاديمية على حساب طرق العرض وأسلوب الكتابة، إضافةً إلى قلة الأقلام العربية التي تتلاءم مع خصوصيات الدوريات وشروط الكتابة التاريخية في آن. ويظل أهم العوائق هو محدودية التوزيع التي تحصر هذه المجلات في فضاءات نخبوية لا تتخطاها.
المؤرخ المصري قاسم عبده قاسم طرح هذه الإشكاليات من قبل في افتتاحية دورية "كانَ التاريخية". وقد وضع إصبعه على عدد من السلبيات، إحداها أن "عدداً كبيراً من هذه المجلات والدوريات قد صارت مجرد أداة لنشر البحوث والدراسات، التي يتقدم بها أصحابها إلى الترقية في الوظائف الأكاديمية وهو ما يعني أنها صارت "وسيلةً مهنيةً" أكثر من كونها "وسيطاً علمياً" للعمل على تطور الدراسة التاريخية بشكل عام".
ولعل منعطف الانتفاضات والثورات العربية قد أنضج الوعي لدى الشعوب العربية بحيث تلتفت إلى التاريخ كحاجة، بما هو أحد أهم منطلقات التغيير الجدي. لقد صارت أدوات الفهم التاريخي كاستعمال الأرشيف وتبسيط نظريات تفسير التاريخ من أكثر الوسائل نجاعة في الأزمنة الانتقالية.
فإذا ما تطلعت الدوريات التاريخية للعب دور الرابط بين المشتغلين في الميدان التاريخي والجمهور العريض، تحولت بذلك إلى داعم قوي لتحقيق هذه الغايات، ولعلها تضيء أسباب خمود البحث التاريخي أو تكشف شروط نهضته وسبل الاستفادة منه بشكل موسع. كما تخوّل لها خصوصيتها أن تتطرق لمشكلات تدريس التاريخ وسبل تطويرها، علاوة على إمكانية التقاطع مع جهود البحث في الشؤون الاستراتيجية.
لقد بدأت رحلة المجلات التاريخية العربية سنة 1948 بـ "المجلة التاريخية المصرية"، ومرت حديثاً من تجربة "مجلة المؤرخ" الإلكترونية، وها هي "أسطور" تقتحم المغامرة من جديد.
لا زالت معادلة الوصول إلى قارئ غير متخصص، والتأثير الايجابي فيه، مع المحافظة على معايير البحث العلمي، درجةً تقف دونها المجلات التاريخية العربية. ولا بأس اليوم أن تلعب الدوريات، والصحافة أيضاً، دور تبسيط العلوم والمعارف في كل الميادين وعرضها، لمساعدة الشعوب على هضمها واستثمارها.