كتاب "أخلاق مَرحة"، الصادر منذ شهرَين عن "دار لوبومييه" في باريس، وليدُ ذكرى ميلاد صداقةٍ حميمة، جمعت بين الفيلسوف الفرنسي ميشال سير (1910 - 2019)، وبين مديرة دار نشرٍ اختارت لها اسم: "شجرة التفّاح"، بكلّ ما تحمله هذه الفاكهة من رمزية دينية وأسطورية في المخيال المسيحي. فقد طلبت منه هذه الناشرة أن يحتفيَ بذكرى تعاونهما عبر تحبير بضعة أسطر، ثم تحوّلت الأسطر إلى فصولٍ، وجُمعت في كُتيّب من إحدى وتسعين صفحة. ولكنْ رغم إيجازه، لا يُقرأ - لأصالته - على عَجل.
أطلق ميشال سير على هذه الرسالة عنوانَ: "أخلاق مَرحة"، وهي ترجمتُنا للنص الأصلي: "Morales espiègles". وتجدر الملاحظة، في البدء، أنّ هذا الوصف صعب الترجمة، حين يتعلّق بالأخلاق نعتاً وتحديداً. ويمكن نقله، بشيءٍ من التوسُّع، بمقابلات مثل: "مَرحة"، و"لَعوب"، و"ضاحكة" أو "جذلى"... وكلّها مفردات تدور معانيها على مبدأ نقد الأخلاق عبر الإضحاك دون الاستهزاء، في استعادة تقريبية لمقولة: "عَلِّم الصبيَةَ وهم يلعبون".
في آخر كُتُبه هذا، انبرى الفيلسوف الفرنسي يتحدّث عن مقولات الأخلاق، مقسّماً إياه إلى ستة أقسام، علاوة على مقدّمة وتذييل. يبتدئها بمديح "الهُتاف" أو "مقاطعة الكلام"، باعتبارهما طريقة مَرحة في الانتقاد ورفض الدوغمائية تخالف منهج الثورة الجذرية العنيفة، لاقتصارها على مجرّد "الإزعاج" والتشويش. وانتهى إلى أنّ "الهتاف" لا يتنافى مع الطاعة والانقياد، بل إنه يُفضي لا محالة إلى القبول بالواقِع والوعي بإكراهاته. وربما تُصوّر هذه الاستعارة دورَ المثقّف في عصرنا، كما يراه صاحب "التواصل" (1969)؛ فهو يعتبر الفلسفة، التي صاحبت المجتمعات الإنسانية منذ قرون، مجرّد "هتاف نقدي" يوجَّه ضد تحوّلات العصر، دون الثورة عليه.
وبعدها يعقد سير فصلاً عن ضرورة قبول أن يُقاطَع الإنسانُ وأن يُهتَف ضدَّه وأن ترفض بعض رغباته، في صورة تُوحي بالحسّ الواقعي والتواضع حيال قوانين العالم الطبيعية أو المجتمعية، والقبول بالنقد أثناء الاحتكاك بها ومواجهة إكراهاتها؛ إذ يكمن الرهان في الإنصات إلى الهتاف المضادّ، وهو ما يقتضي فَهم ما يفرضه الواقع من قواعد، لا يمكن لأحدٍ أن يتهرّب منها نهائياً.
ثم يتناول المفكّر بعدها مفاهيم "العذوبة" و"العطاء" و"الصفح". وفي هذا الفصل، يميّز بين "المرح العذب" و"المرح القاسي" الذي يمكن أن يتحوّل إلى سلاح قاتل، يفتك بالمسخور منه ويحيل حياتَه جحيماً. وعلى طريقة غابرييل غارسيا ماركيز، يذكّر سير بخطورة الإشاعات التي تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كالنار في الهشيم، مسبّبةً كوارث حقيقية. ويحلّل هنا "العطاء" باعتباره فعلاً متعدّياً، لا يُنتظرُ منه مقابلٌ ولا نفعٌ، وإنما هو جمال البذل المستمر الذي لا يُراد منه "جزاءٌ ولا شكورٌ"، بحسب العبارة التراثية. ويربط هذه الفضيلة بالعطاء المعرفي ونقل العلوم، جيلاً بعد جيل، من الأساتذة إلى طلبتهم، ومن العلماء إلى جمهورهم.
وأمّا الفصل الموالي، فقد خصّصه الكاتِب لفضيلة "الصفح" التي تُحرّر من كوابيس الحقد وجَحيم الثارات. ولكنه كان في تناوله شديدَ الإيجاز ولم يُحِل على تأمّلات فلاديمير جانكلفيتش أو جاك دريدا، وكلاهما رَبط الصفح، ولا سيما عن جرائم الحروب بـ"جنون الاستحالة". وهي استحالة تَصدق تماماً على نسيان ضحايا الحروب الطاحنة التي اندلعت في بلادنا إبان الاحتلال وبعده. وأخيراً، خُتمت الرسالة بفصلٍ عن فضائل العالم الافتراضي وتراوحها بين الواقع المادّي والمتخيّل.
صيغ هذا الكتيّب في شكل محاورات خفيفة الظلّ بين جَدّ مناكفٍ وحفيدته الماكرة. وظلاّ يتطارحان مسائل الأخلاق والسياسة وما طرأ على العصر، ونحن منه، وفيه مِن آلامِ الضحايا، من تحوّلات عميقة. مقابَلة هازلة بين جيليْن: تضع الحفيدة ثقافة جدّها على المحكّ، وتُرسله إلى مضائق الفكر عساه يرى تناقضاته. ويردُّ الجَدّ بقوّة الحجّة مبيّناً تهافُت بيانها تارةً، ومنصاعاً إلى دقيقِ استدلالها تارةً أخرى. وضُمّنت هذه المقابلة حكاياتٍ وقصصاً واقعية عاشها الفيلسوف الفرنسي طيلة حياته مدرّساً ومتأمّلاً، فكأنما كَتَبه ليودع قرَّاءه ويختم مسيرته التأملية عبر نصٍّ يَمتزج فيه المرح والجِدّ، ويتضافر النقد والحكمة في "مقابساتٍ" موجزة ناصعة، كتلك التي صاغها مِسكويْه.
وأمّا أسلوب التأليف في هذه الرسالة، فمزجٌ من السرد الروائي والتأمُّل العقلي، راوح من خلاله بين التحليل والتخييل ينصبّان على مساجلة بين جدٍّ وحفيدته، انتهيا إلى التماهي في شخصية "الثالث المثقّف". وكان يضيف إلى هذا المزيج شذراتٍ من الشرح الإيتيمولوجي (التأثيل اللغوي) للكلمات، يعود إلى دلالاتها الأصلية ويستكشف تطوّرات معانيها، ثم، وهذا هو الأهم في تمشّيه، يَربطها بالواقع حتى يقيس مدى إحالتها على المرجع الخارجي من عدمها، ويعاين حجم أمانة تلك الإحالة أو خيانتها.
وحتى يأخذ القارئ العربي فكرة عن هذا المنهج، نذكر ما قاله عن مفردة "maintenant" (الآن)، فقد حَلّلها إلى جزئَيْها: "main" (اليد) و"tenant" (ممسكاً). وتوصّل إلى أن "الآن" هو لحظة إمساك يَد العقل بالواقع والسيطرة عليه، وهو ما يحصل عبر إمساكنا بهاتف جوّال مثلاً، يضمّ في ذاكرته موسوعات العالم قاطبةً عبر الشبكة العنكبوتية.
في هذا الكتيّب، قطع صاحب "معجَم العلوم" مع صرامة التحليل الفلسفي الذي عوّد عليه قارئيه في مجال الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم. وفارق السجل الذهني المجرّد وانتقل إلى حقل الأخلاق الذي ولجه كأنما "يَلج أرضاً بِكراً على أطراف الأصابع"، بحسب عبارته، من بوّابة "المرح"، بما هو موقف استخفاف بالوجود وثقة في قدرة الإنسان على مواجهة قدَره. وقد يخيّب هذا الأسلوب آمال الذين ألفوا تجريدات إيمانويل كانت المثالية أو التفكيكية التي استلهمت مغامرات نيتشه الفكرية.
وقد تخيب آمالنا، نحن القراء العرب، من هذا الفيلسوف وغيره مثل بول ريكور، ومن صمتهم التام عن قضايا العالم العربي - الإسلامي في علاقاته بالغرب، وما اجترحه هذا الأخير طيلة عقود في ديارنا. فحين يتناول سير قضية الصفح مثلاً، يستبعد من مجال تحاليله المرحلة الاستعمارية، كأنها لم تكن. كما يستبعد الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني وكأنه عدمٌ.
ولا يُلام فيلسوف على المحاور التي يختار عدم الخوض فيها، فهذه حريته. ولكنه عندما يتطرّق إلى مفاهيم جوهرية كالبراءة والكرم والصفح والذاكرة والراهن والفضيلة والشر، لا يمكن أن يغيّب العلاقات المعقّدة التي تصل ضفّتي المتوسّط. فمصيرنا مشترك والكثير من مظاهر التاريخ المعاصر، الواقعي منه والافتراضي، محكومٌ بتجاورنا.
من جهة ثانية، كيف للأخلاق، وهي هنا بصيغة الجمع واردة، أن تكون ليّنة بعد أن تَأمْرَكَ العالَم وأفقدت الولايات المتّحدة الوطن العربي حسَّ المبادرة وقوّة الحركة، بل قيمه الأساسية ضمن حرب شاملة نَسفت كلّ المرجعيات. صحيح أنَّ ميشال سير أذكى من أن ينضمّ إلى قافلة الوعّاظ وأن يكتب بأسلوبهم السطحي، ولكنه غَفل عن أصل الصراع الأخلاقي الذي هو إمبريالي بالأساس. اكتفى بمناكَفَةٍ تناسب شيخوخته الهانئة.