على خلاف العديد من فلاسفة السياسة والقانون الأميركيين، لم يصل رونالد دووركين (1931 - 2013) إلى العربية. للمصادفة، فإن أول عمل يُترجم له، "أخذ الحقوق على محمل الجد" (1977) هو أول مؤلّفاته، وقد نقله إلى العربية أستاذ الفلسفة السياسية في الجامعة التونسية منير الكشو، وصدر عن "المركز الوطني للترجمة" في تونس (2015).
قارئ العمل قد يفهم أسباب غياب مفكّر أساسي كدووركين عن العربية؛ إذ إن عدداً من القضايا والنقاشات التي يطرحها لا نجد لها تطبيقات عندنا.
هنا، تسعفنا المقدّمة التي وضعها المترجم، فعلاوة على أن الكتاب يفتح على مشهد نرى من خلاله كيف يفكّر العقل الأنغلوسكسوني في شؤون القانون، وبالتالي كيف ينظّم الحياة العامة، فإنه أيضاً - وباعتباره تفكيراً في "كيفية تحصين الحقوق فكرياً"- يتيح إضاءات على الأفق السياسي لبلدان عربية عدة دخلت مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تحتاج إلى معرفة الأسس الفكرية والفلسفية التي استندت إليها التجارب الديمقراطية أثناء بنائها، إذ إن "ترسيخ حكم القانون وبناء دولة الحق مطلب عابر للثقافات" وهي عبارة للمفكّر الكندي ويل كاميلشكا يوردها المترجم في المقدّمة.
هيكلياً، يبدو الكتاب مجموعة من المناقشات تقوم على فحص الحجج من جهة، ثم تقديم الحجج المضادة لها؛ إذ يشبه جملةً مفرداتها نظريات فلاسفة القانون الأميركان والإنجليز، مثل هارت وفولر وراتز وبنتام وغيرهم. في الأثناء، يقدّم الكاتب بناء منطقياً للمفاهيم التي يستعملها في حجاجه.
الفكرة الرئيسية لدووركين أن للناس حقوقاً أخلاقية يحاججون بها الدولة، هذه الحقوق بحسبه عابرة للأمكنة والعصور وتظل بذلك خارج نطاق سيطرة الدولة وتحكّمها، ولا يمكن أن تُختزل في القوانين التي تضعها، غير أن هذه الحقوق المطلقة تظل تنتظر التوضيب القانوني حتى تتحوّل إلى حقوق فعلية.
يدعو دووركين إلى أن يأخذ القضاة بالاعتبار في أحكامهم لا فقط القواعد القانونية، وإنما أيضاً المبادئ الأخلاقية العامة؛ مثل العدالة والحرية والمساواة في الاحترام والاعتبار، أي أن يتكوّن القانون ليس فقط من قواعد وإنما أيضاً من مبادئ.
وهذه المبادئ تسمح للقضاة بمجال تحرّك واضح ضمن سلطاتهم التقديرية. لدى الوصول إلى هذا المستوى من التفكير، يقودنا الكاتب إلى رحلة في العقل القضائي، وهو الذي يرى أن القاضي يتحوّل "إلى مؤلف في مشروع تأليف مشترك لرواية يقوم به عدد من المؤلفين وفق نظام العمل بالسلسلة".
بهذه المنهجية، يرصد دووركين ميكانيزمات تطوّر القانون حيث يشير إلى أن "القضاة ينتهون بالاتفاق على أن القرارات السابقة تسهم في صوغ قواعد جديدة".
ويضيف أن "القضاة حينما يحاولون شرح الكيفية التي يشتغلون بها يلجؤون الى مجازات للتعبير عن الإكراهات التي يشعرون بها، فيقولون أنهم يجدون قواعد جديدة من داخل القانون ككل وإنهم يطبّقون منطقاً داخلياً خاصاً بالقانون ذاته". هذه العملية يعتبرها دووركين أقرب إلى طريقة التفكير الفلسفي.
يستمر الكاتب في تحليله إلى ما هو أبعد، إذ يُبرز اشتباك القانون مع السياسة، فالقاضي "يستند إلى أن الرأي السياسي الذي يتبنّاه يمثّل في حد ذاته تسويغاً لقراره". يقدّم الكاتب مثالاً: هل يجوز إنزال عقاب شديد بمصنع السيارات لخلل في تصنيع سيارة ترتّب عنه حادث ذهب بحياة أشخاص، في حين أن ذلك قد يضر بصناعة السيارات ككل وبالاقتصاد الوطني ويشوّه سمعته في العالم؟
في الفصل السابع، والذي يحمل عنوان الكتاب، يطرح المؤلّف جملة من المفارقات: في وقت تسيطر فيه لغة الحقوق على الجدل السياسي في أميركا، هل تحترم الدولة الحقوق الأخلاقية والسياسية لمواطنيها؟ هل تسير السياسة الخارجية للدولة وسياساتها العرقية باتجاه مضاد لتلك الحقوق؟ هل للأقليات العرقية التي انتُهكت حقوقها الحق في أن تنتهك بدورها القانون؟
يجادل هنا دووركين من نظّروا للقول بأن المواطنين لا يجوز أن تكون لهم حقوق خارج تلك التي يمنحها القانون ليصل بنا إلى ما يسمّيه بـ "تناقض خطير": فإذا كان لشخص ما الحق في القيام بما يمليه عليه الضمير، كيف يحق للدولة ثنيه عن ذلك؟ أليس عيباً على الدولة منع الناس من القيام بما يُعتبر حقاً لهم ومعاقبتهم عليه؟
لكنه في المقابل، يكشف الحدود التي تتحرّك ضمنها هذه النظريات، فـ "إذا ما تُرك قانونٌ ما دون إنفاذ، حتى إن كان سيئاً، سيضعف احترام القوانين وسيتأثّر وضع المجتمع سلباً". كما أنه إذا تُرك للمواطنين الحق في أن "لا يطيعوا إلا القوانين التي يقبلون بها ستعمّ الفوضى".
هكذا، يقترح دووركين على الدول أن تحدّد الحقوق، لا انطلاقاً من القوانين التي وضعتها فقط وإنما أن تأخذ في الاعتبار الحقوق الأخلاقية التي لا تتضمّنها القوانين، مثلما يوضّح ذلك حول حق العصيان المدني أو حول الحق في التمييز الإيجابي لصالح الأقليات.
يختم دووركين الفصل بما يشبه التوقّع العلمي: "إذا لم تأخذ الدولة الحقوق على مجمل الجد، لن تأخذ القانون على محملّ الجد أيضاً".