"آيا صوفيا"... المتحف والمسجد وسجالات الهوية التركية

23 يوليو 2020
من داخل "آيا صوفيا" لمّا كان متحفاً (Getty)
+ الخط -

ربما لم تشهد الأوساط الثقافية التركية، منذ احتجاجات "غيزي بارك" بإسطنبول في 2013، انقساماً حادّاً بين المثقّفين، مثلما حدث في الأيام السابقة بعد قرار المحكمة الإدارية العليا في تركيا إلغاء قرار مجلس الوزراء الصادر بتاريخ 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 1934 بتحويل "آيا صوفيا" من مسجد إلى متحف، كما أشارت المحكمة في قرارها إلى امتلاك "وقف السلطان محمد الفاتح" لـ"آيا صوفيا"، وأنه سيتم تقديمه كجامع في خدمة الشعب.

وقد ربط كثير من المثقّفين الأتراك المعارضين لهذا القرار موضوع "آيا صوفيا" بمحاولات النظام التركي "الانقلاب على هوية تركيا العلمانية". وفي مقدّمة هؤلاء، الروائي أورهان باموق، الحائز جائزة نوبل للآداب، والذي صرّح في مقابلة مع "هيئة الإذاعة البريطانية" بأن "إعادة فتح آيا صوفيا مسجداً للعبادة، يعني أننا نقول للعالم إننا لم نعد علمانيّين". وأضاف: "هناك ملايين من الأتراك العلمانيين مثلي يصرخون ضدّ هذا القرار، لكن أصواتهم غير مسموعة".

أمّا المخرج سمير أصلان يورك، فإنه يتساءل في حديثه إلى "العربي الجديد" عن الفائدة من هذا القرار الآن، ويقول: "لا يهمُّني إذا تحوّل آيا صوفيا بعد كل هذه السنوات إلى مسجد. لم أكن أذهب إليه عندما كان متحفاً، ولن أذهب إليه بعد أن صار مسجداً. ولكن في الحقيقة أعجبني أن أميركا وأوروبا والمتزلّفين للغرب منزعجون الآن. أمّا عن الذين يقولون إن العلمانية تتلاشى الآن من تركيا، فأحبّ أن أقول لهم: صباح الخير! هل لاحظتم الآن فقط؟".

يعني القرار أنّ النظام يركّز على إبراز الهوية الدينية للدولة

امتدّت الخلافات حول موضوع "آيا صوفيا" إلى الأوساط الأكاديمية أيضاً بين المؤرّخين الأتراك؛ إذ يرفض المؤرّخ البارز إلبير أورتايلي قرار تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، بقوله: "إن القرار قد أُخِذ قديماً بتحويل آيا صوفيا إلى متحف، ولا داعي لهذه "البروباغندا" الآن، لأنه من الأساس يوجد قسم في آيا صوفيا يُرفع فيه الأذان في أوقات الصلاة، ويصلّي فيه الناس". ويضيف: "موضوع آيا صوفيا ليس لعبة، ويجب ألّا يكون أداة سياسية أبداً، هذا أمر خطير. ويجب الالتزام بقرار عام 1934".

أمّا المؤرّخ مراد بردقجي فيؤيّد القرار قائلاً: "إن المجتمع التركي المحافظ كان يحلم بشيئين منذ الثلاثينيات؛ أوّلاً، أن يعود الأذان باللغة العربية بدلاً من التركية التي استُخدمت منذ عام 1932، وثانياً، أن يعود أيا صوفيا مسجداً بعد أن تحوّل إلى متحف عام 1934. وقد عاد الأذان بالعربية مرّة أخرى بعد 18 عاماً في ظل حكومة عدنان مندريس، وأخيراً، ولله الحمد، عاد أيا صوفيا مسجداً من جديد. وقد كان هذا حلماً لكل مسلم في تركيا، وها قد تحقّق". 

كما يتّفق الشاعران راسم أوزدينورين وإبراهيم تنكجي على تأييد القرار، وربطه بهوية تركيا الإسلامية. حيث يرى الأول: أنه "قرار يشبه فتح القسطنطينية. وسوف يخلِّد التاريخ أسماء كل من حاربوا طوال سنين من أجل أن يعود آيا صوفيا إلى مسجد. وأتمنّى أن يصبح هذا القرار باباً لفتوحات جديدة"، مضيفاً: "هناك من يقولون إن هذا القرار هو خطوة في طريق تحرير الأقصى، وأقول إن هذا صحيح ولكن قبل "فتح مكة" لا يمكن تحرير الأقصى".

ويقول تنكجي: "كنت أنظّم المظاهرات مع أصدقائي منذ عام 1988 من أجل فتح آيا صوفيا كمسجد للشعب. وكان هذا هو حلم جيلنا. وقد كتبت أثناء شبابي قصيدة بعنوان "رثاء آيا صوفيا"، كما كتبت عام 2013 مقالة أطالب فيها بأن يصبح الدخول إلى آيا صوفيا بالوضوء وليس بالتذكرة".

ليس بالضرروة صراعاً إسلاميّاً/علمانيّاً كما يجري تصويره

إلّا أنّ القاص والروائي ظفر دوروك، يرفض هذا الطرح، ويقول في حديث إلى "العربي الجديد: "إن آيا صوفيا ميراث ثقافي مشترك للبشرية. وقد احترم أتاتورك المسيحية والإسلام معاً، وجعل منه متحفاً عام 1934. لكن النظام الإسلامي المحافظ الآن في تركيا يحاول بشتّى الطرق أن يجعل من تركيا دولة إسلامية، من خلال تجاهله مبادئ العلمانية والديمقراطية التي جلبتها الجمهورية. ولذلك قام بتحويل الميراث الإنساني المشترك إلى مسجد، مستخدماً منطقاً عثمانيّاً. وهذا يعني أن هذه الأراضي التي جعلت منها الجمهورية وطناً ما زالت ملكاً للسلطان، وأنّ قواعد الفتح والغزو قد حلّت محلّ القوانين المدنية. إننا نواجه نظاماً رجعيّاً يصف إنجازات الجمهورية بالخيانة، ويجعلون من مستبدٍ مثل السلطان عبد الحميد بطلاً، يقارنون بينه وبين أتاتورك. وهذا تطوُّر خطير للغاية".

ويؤكّد الموسيقار الشهير فاضل ساي على هذه الفكرة بقوله: "إنني أرى أن مسجد السلطان أحمد بجوار آيا صوفيا كان شيئاً جميلاً يرمز للسلام. وأتصوّر أن جميع الناس كانوا يحبّون إسطنبول لأجل هذا. وفي الحقيقة كنت أفخر بهذا الأمر كثيراً. إنني أحترم جميع الأديان، وموضوع آيا صوفيا لا يعنينا نحن فقط، ولكن يعني البشرية كلّها، لأن آيا صوفيا مكان يزوره أكثر من ثلاثة ملايين شخص سنويّاً".

وهناك بعض الآراء التي حاولت طرح أفكار جديدة حول الموضوع، مثل الشاعر صالح بولات. إذ يقول لـ "العربي الجديد": "كان ينبغي الحفاظ على آيا صوفيا متحفاً، باعتباره رمزاً للسلام العالمي. ولكن كان من الممكن أيضاً أن يُفتح للعبادة للمسلمين يوم الجمعة، وللمسيحيّين يوم الأحد. إلّا أنه الآن صار مكان عبادة لدين واحد فقط، وهذا يعني أن أجواء السلام والتسامح قد انتهت. إن تحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد يعني أن النظام يركّز على إبراز الهوية الدينية للدولة، على حساب تخلّيه عن الدخل الاقتصادي الذي كان يجلبه المتحف، ولا يُستهان به".

أمّا الروائي أحمد أوميت، فيرى أن "المشكلة في تركيا ليست في هذا الموضوع من الأساس، وأنه يجب أن نتذكّر ونحن نتحدّث عن موضوع آيا صوفيا أن حوالي 22 مليون تركيّاً بلا عمل. لقد أصبح العاطلون عن العمل هم النسبة الأكبر في البلاد، ويجب أن تُحلّ هذه المشكلة قبل أي شيء".

وأخيراً، فإن بعض الباحثين يرون أن هذا الصراع ليس صراعاً إسلاميّاً/ علمانيّاً كما يحاول بعضهم تصويره. ومن بين هؤلاء، الباحث والناقد الأدبي مراد بلجه، الذي يذهب إلى أن "مشكلة آيا صوفيا ليست جديدة، وأن النقاشات حول هذا الموضوع لم تتوقّف منذ الخمسينيات. وفي رأيي، فإن القوميين الأتراك هم الذين يرغبون في تحويل آيا صوفيا إلى مسجد منذ ذلك الوقت، أكثر من الإسلاميّين أنفسهم. ولأجل هذا تمّ تخصيص قسم في آيا صوفيا لإقامة الصلاة، ولكن يبدو أن هذا القسم لم يعد كافياً بالنسبة إليهم".

المساهمون