13 نوفمبر 2024
انتفاضة الكهرباء في العراق
"إذا لم يكن بالإمكان توفير الطاقة الكهربائية بما يكفي العراقيين، فلماذا لا تعمد الأسر لشراء مولدات خاصة"؟ أطلق هذا السؤال مسؤول عراقي في مواجهة صحفية معه، وهو يشبه ما كانت ماري انطوانيت قد قالته قبل قرنين: "إذا لم يحصل الفرنسيون على الخبز، فلندعهم يأكلون الكيك"
ومثلما فعلها الفرنسيون، فعلها العراقيون حين انطلقت شرارة الانتفاضة من البصرة، لتجد صداها في أكثر من مكان من أرض العراق، ولم يكن في وسع الحاكمين، هذه المرة، أن يوصموا الحراك الشعبي الماثل بأنه من فعل "أعوان يزيد"، كما قالوا في حينه، عن حراك مدن غرب البلاد، فالذين احتشدوا في "ساحة التحرير"، وسواها من ساحات المحافظات، لم يتبعوا طائفة أو عرقا أو حزبا ما، إنما كانوا "عراقيين" بملء السمع والبصر، أعلنوا غضبهم على ولاة أمورهم الذين جثموا على صدورهم دزينة من السنين العجاف، فما أقاموا عدلاً، ولا بنوا بنياناً، إنما تواطأوا باسم الدين على نهب ثروات البلاد، وسخروا مواردها لإرضاء نزواتهم الشريرة، وتطمين نفوسهم الجوعى إلى المال والسلطة.
ولم يجد الحاكمون سوى شماعة "داعش"، ليعلقوا عليها ما يحدث. وهكذا، لم يكن عمّار الحكيم حكيما بما يكفي، عندما حكم على مواطنيه المطالبين بحقهم في الكهرباء والماء والخدمات بأنهم "داعشيون"، هدفهم إرباك الأمن، وهم ليسوا سوى منفذين لمؤامرة خطط لها أبو بكر البغدادي، لإحداث جبهات جديدة، تخفف الضغط عليه، بعد "الانتصارات" التي حققها حشد اليليشيات.
وربما لا يتذكّر الحكيم، وقد جاءته هيبة السلطة تجر أذيالها، في واقعة توريثٍ لا نعرف لها سابقة لدى المرجعيات الدينية، أن ما أنفق على قطاع الكهرباء في العراق، منذ عام 2003 وحتى اليوم، تجاوز 34 مليارا من الدولارات، بشهادة اللجنة البرلمانية لشؤون الطاقة، وهو يعادل، بحسب صحيفة غربية رصينة، تكلفة قطاع الكهرباء في ثلاث دول أوروبية لا تنقطع الكهرباء فيها دقيقة، بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وقد لا يعرف الحكيم أيضاً أن سوء إدارة القطاع في السنوات الخمس الماضية ألحق الضرر بمجمل الاقتصاد العراقي، وقدر المعنيون الخسارة بأكثر من 300 مليار دولار.
وكنا نتمنى لو تحرّى الحكيم بنفسه واقع الحال في هذا القطاع المرتبط بحياة الناس في عهود ستة وزراء، دخلوا الوزارة خالي الوفاض، وخرجوا وقد انتفخت جيوبهم وأوداجهم، وبعضهم هرب إلى الخارج، مكتفيا من الغنيمة بالإياب، وكانوا أجزلوا الوعود لمواطنيهم بحل الأزمة في شهور، وآخرهم الوزير الذي قال إن العراق سيصدّر الفائض من الطاقة إلى دول الجوار، لكن أكثرهم استخفافا بمطالب مواطنيه مسؤول قال إن على الناس أن يصبروا، لأن وصول الكهرباء إلى منازلهم لن يتم قبل مرور 27 سنة.
ويبدو أن الذين يحكمون العراق اليوم، والحكيم ووزراء الكهرباء الستة في مقدمتهم، لم يقرأوا التاريخ جيدا، وإلا لتذكّروا مقولة أنطوانيت التي أخرجت حشود الفرنسيين الغاضبة إلى شوارع باريس، تطالب بالخبز، واقتحمت قصر فرساي، ودمرت سجن الباستيل، ورفضت دفع الضرائب، ودخلت في عصيان شامل، أدى إلى إسقاط الملك وزبانيته، ولأدركوا معنى صرخة ميرابو، وهو في القصر: "نحن هنا، ولن نخرج إلا على أسنة الحراب"، ولراجعوا رد فعل لويس السادس عشر الأعمى الذي كتب عن واقعة الثورة في دفتره اليومي كلمتين: "لا شيء"، ثم واجه مصيره كأي طاغية مستبد، على يد الثوار الذين شكلوا من بينهم جمعبة وطنية لحكم البلاد، وكان بعدها ما كان.
وبالعودة إلى تصريح الحكيم، السيئ الصيت ذاك، نجده يؤشر إلى أن هناك "أزمة إدارة و"أموال غير كافية" و"تقاطعات وصراعات"... إلخ، وهو يكون بذلك قد شخّص، من دون أن يدري، حال "العملية السياسية" الطائفية التي جاء بها الأميركيون، ويجهل أقطابها الذين استقدمتهم أميركا من "الأزقة الخلفية" لدول الغرب والجوار، علم السياسة وفن الإدارة والحكم، وقد استولوا على مليارات الدولارات، ودفعوا البلاد إلى حافة الإفلاس، وانشغلوا، وأشغلوا مواطنيهم معهم، في "تقاطعات وصراعات" على المال والسلطة والنفوذ، وأغرقوا البلاد في حمى الحروب الأهلية، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي لم يعرفها العراقيون في أي عهد مضى، ما جعل صبرهم ينفذ، ودفعهم إلى ممارسة حقهم في التظاهر والاحتجاج، كما فعل الفرنسيون، عندما لم يحصلوا على الخبز. وإذا كان العراقيون لم يصلوا إلى "قصر فرساي" العراقي، ولم يقتحموا سجون "الباستيل" العراقية حتى الآن، فإنهم مصممون، كما يبدو، على الاستمرار في انتفاضتهم، حتى هزيمة مضطهديهم، لسبب واحد، أنه ليس لديهم ما يخسرونه سوى أغلالهم، وقد يحتاجون وقتاً أطول، وأساليب وصيغا أكثر نجاعة وتأثيراً، وعندها سيكتشف الحاكمون، وإنْ بعد فوات الأوان، أن وصفة "انتظار المهدي" لم تعد فاعلة، تماما كما اكتشف ملوك فرنسا ورجال كنائسها، قبل أكثر من قرنين، أن تسويقهم فكرة الحصول على أمتار في الجنة لم يعد ممكناً. وفي الثورة، كما في الرواية، أصعب مرحلة الخاتمة.
ومثلما فعلها الفرنسيون، فعلها العراقيون حين انطلقت شرارة الانتفاضة من البصرة، لتجد صداها في أكثر من مكان من أرض العراق، ولم يكن في وسع الحاكمين، هذه المرة، أن يوصموا الحراك الشعبي الماثل بأنه من فعل "أعوان يزيد"، كما قالوا في حينه، عن حراك مدن غرب البلاد، فالذين احتشدوا في "ساحة التحرير"، وسواها من ساحات المحافظات، لم يتبعوا طائفة أو عرقا أو حزبا ما، إنما كانوا "عراقيين" بملء السمع والبصر، أعلنوا غضبهم على ولاة أمورهم الذين جثموا على صدورهم دزينة من السنين العجاف، فما أقاموا عدلاً، ولا بنوا بنياناً، إنما تواطأوا باسم الدين على نهب ثروات البلاد، وسخروا مواردها لإرضاء نزواتهم الشريرة، وتطمين نفوسهم الجوعى إلى المال والسلطة.
ولم يجد الحاكمون سوى شماعة "داعش"، ليعلقوا عليها ما يحدث. وهكذا، لم يكن عمّار الحكيم حكيما بما يكفي، عندما حكم على مواطنيه المطالبين بحقهم في الكهرباء والماء والخدمات بأنهم "داعشيون"، هدفهم إرباك الأمن، وهم ليسوا سوى منفذين لمؤامرة خطط لها أبو بكر البغدادي، لإحداث جبهات جديدة، تخفف الضغط عليه، بعد "الانتصارات" التي حققها حشد اليليشيات.
وربما لا يتذكّر الحكيم، وقد جاءته هيبة السلطة تجر أذيالها، في واقعة توريثٍ لا نعرف لها سابقة لدى المرجعيات الدينية، أن ما أنفق على قطاع الكهرباء في العراق، منذ عام 2003 وحتى اليوم، تجاوز 34 مليارا من الدولارات، بشهادة اللجنة البرلمانية لشؤون الطاقة، وهو يعادل، بحسب صحيفة غربية رصينة، تكلفة قطاع الكهرباء في ثلاث دول أوروبية لا تنقطع الكهرباء فيها دقيقة، بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وقد لا يعرف الحكيم أيضاً أن سوء إدارة القطاع في السنوات الخمس الماضية ألحق الضرر بمجمل الاقتصاد العراقي، وقدر المعنيون الخسارة بأكثر من 300 مليار دولار.
وكنا نتمنى لو تحرّى الحكيم بنفسه واقع الحال في هذا القطاع المرتبط بحياة الناس في عهود ستة وزراء، دخلوا الوزارة خالي الوفاض، وخرجوا وقد انتفخت جيوبهم وأوداجهم، وبعضهم هرب إلى الخارج، مكتفيا من الغنيمة بالإياب، وكانوا أجزلوا الوعود لمواطنيهم بحل الأزمة في شهور، وآخرهم الوزير الذي قال إن العراق سيصدّر الفائض من الطاقة إلى دول الجوار، لكن أكثرهم استخفافا بمطالب مواطنيه مسؤول قال إن على الناس أن يصبروا، لأن وصول الكهرباء إلى منازلهم لن يتم قبل مرور 27 سنة.
ويبدو أن الذين يحكمون العراق اليوم، والحكيم ووزراء الكهرباء الستة في مقدمتهم، لم يقرأوا التاريخ جيدا، وإلا لتذكّروا مقولة أنطوانيت التي أخرجت حشود الفرنسيين الغاضبة إلى شوارع باريس، تطالب بالخبز، واقتحمت قصر فرساي، ودمرت سجن الباستيل، ورفضت دفع الضرائب، ودخلت في عصيان شامل، أدى إلى إسقاط الملك وزبانيته، ولأدركوا معنى صرخة ميرابو، وهو في القصر: "نحن هنا، ولن نخرج إلا على أسنة الحراب"، ولراجعوا رد فعل لويس السادس عشر الأعمى الذي كتب عن واقعة الثورة في دفتره اليومي كلمتين: "لا شيء"، ثم واجه مصيره كأي طاغية مستبد، على يد الثوار الذين شكلوا من بينهم جمعبة وطنية لحكم البلاد، وكان بعدها ما كان.
وبالعودة إلى تصريح الحكيم، السيئ الصيت ذاك، نجده يؤشر إلى أن هناك "أزمة إدارة و"أموال غير كافية" و"تقاطعات وصراعات"... إلخ، وهو يكون بذلك قد شخّص، من دون أن يدري، حال "العملية السياسية" الطائفية التي جاء بها الأميركيون، ويجهل أقطابها الذين استقدمتهم أميركا من "الأزقة الخلفية" لدول الغرب والجوار، علم السياسة وفن الإدارة والحكم، وقد استولوا على مليارات الدولارات، ودفعوا البلاد إلى حافة الإفلاس، وانشغلوا، وأشغلوا مواطنيهم معهم، في "تقاطعات وصراعات" على المال والسلطة والنفوذ، وأغرقوا البلاد في حمى الحروب الأهلية، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي لم يعرفها العراقيون في أي عهد مضى، ما جعل صبرهم ينفذ، ودفعهم إلى ممارسة حقهم في التظاهر والاحتجاج، كما فعل الفرنسيون، عندما لم يحصلوا على الخبز. وإذا كان العراقيون لم يصلوا إلى "قصر فرساي" العراقي، ولم يقتحموا سجون "الباستيل" العراقية حتى الآن، فإنهم مصممون، كما يبدو، على الاستمرار في انتفاضتهم، حتى هزيمة مضطهديهم، لسبب واحد، أنه ليس لديهم ما يخسرونه سوى أغلالهم، وقد يحتاجون وقتاً أطول، وأساليب وصيغا أكثر نجاعة وتأثيراً، وعندها سيكتشف الحاكمون، وإنْ بعد فوات الأوان، أن وصفة "انتظار المهدي" لم تعد فاعلة، تماما كما اكتشف ملوك فرنسا ورجال كنائسها، قبل أكثر من قرنين، أن تسويقهم فكرة الحصول على أمتار في الجنة لم يعد ممكناً. وفي الثورة، كما في الرواية، أصعب مرحلة الخاتمة.