الهشاشة الديمقراطية والارتجال السياسي في تونس
تمكّن الرئيس التونسي، قيس سعيّد، من تحويل القمع والترهيب والتخويف والتخوين إلى أسلوب حكم. وأرسى بذلك منهجا راسخا مكّنه من شنّ حملات اعتقال واسعة استهدفت عشرات المعارضين الذين ينتمون إلى قطاعاتٍ مختلفةٍ وحساسياتٍ فكرية وسياسية متباينة من وزراء وبرلمانيين سابقين وسياسيين ونقابيين وقضاة ومحامين وإعلاميين. ولإحكام قبضته، لجأ قيس سعيّد إلى المحاكمات العسكرية، شكلا متقدّما من سياسة القمع والعسف.
لم يدُر في ذهن أحد، حتى جهابذة التكهنات والتوقعات والتحليل الاستراتيجي، أن قيس سعيّد سينتقل من أستاذ جامعي كان يدرّس مادة القانون الدستوري إلى شخص عنيد متشدّد ومتشبع بثقافة الانتقام. وبالنظر إلى مساره السياسي العادي جدا، وتجربته المتواضعة في تسيير شؤون الدولة، وكونه كان في منطقة الظل بعيدا عن النجومية والأضواء والمناكفات والسجالات السياسية، فلا أحد كان يتصوّر أن يصبح ذات يوم حاكما مستبدا. وهو في عجلة من أمره، ليرتدي بزّة الديكتاتور المتعطش لإجهاض مسار التحوّل الديمقراطي، والإجهاز عليه وعلى مكتسبات ثورة الياسمين وإنجازاتها.
وبشكلٍ موغل في المزايدات والطهر السياسي المفترض، راكم قيس سعيّد الأخطاء والعثرات. لم يتردّد في طرد قياداتٍ نقابيةٍ دولية من تونس لمجرّد حضورها للتضامن مع الاتحاد العام التونسي للشغل. ولم يحدُث في تاريخ تونس المعاصر أن منعت السلطات أي مسؤول نقابي أجنبي من دخول البلاد. ولم تتعامل الدولة التونسية يوما مع مبدأ التضامن النقابي، من منظمات أجنبية مع أكبر تنظيم نقابي تونسي، بأنه تدخّل في الشؤون الداخلية، فقد ظلت الدولة، حتى في أحلك الأزمات وأشدّها احتداما، ملتزمة، إلى حدٍّ معين، باحترام القوانين الدولية المتعلقة بالحق النقابي. ولكن الرسالة التي أراد سعيّد توجيهها تخصّ المنظمة النقابية الأبرز في البلاد، حتى لا تنجح في تفعيل مبادرة الحوار الوطني وترجمتها على أرض الواقع، وحتى تُحرم من الدعم والمساندة الدوليين لمبادرتها. وأراد ايضا ضرب مصداقية المنظمة نفسها وتشويه سمعتها والتشويش على صورتها لدى الرأي العام من خلال اتهامها بالتواطؤ.
اختار قيس سعيّد السياق الخطأ والزمن الخطأ، قصد التضليل وشحن فئاتٍ من المجتمع التونسي
لا غرابة في ذلك، فالجزء الأكبر من التهم الموجهة إلى الموقوفين من مواقع ومشارب مختلفة مرتبط بالعمالة للخارج والاستقواء بالأجنبي. كما أن غاية قيس سعيّد تكمن في محاولة عزل الاتحاد العام التونسي للشغل عن محيطه الدولي. وشكلت هذه الغاية أولوية مركزية للتطبيع مع نهج شعبوي فيه كثيرٌ من الغلو والاستيهامات غير المنطقية، خصوصا أنه شيّد صرح سياسته الشعبوية على التصعيد مع الخارج، وأجّجت تصريحاته الهستيرية، والغريبة صياغةً ولغةً ومضمونا، مشاعر العداء للأجنبي لدى فئةٍ لا يُستهان بها من التونسيين، وضد كل من يتعامل مع الأجنبي بأي شكل. كما جيّش وعبأ الإعلام الموالي له لتكريس هذه المشاعر وتغذيتها، من خلال نشر الاتهامات، وتسويق أخبار زائفة وملفقة، مفادها بأن معارضي سياسته واختياراته يقيمون علاقات مع جهات دبلوماسية أجنبية، إضافة إلى تركيز خطبه على وجود دسائس ومؤامرات تُحاك ضده، بما في ذلك حديثه عن وجود مخطّط لاغتياله.
لقد اتضح أن الرئيس سعيّد هو من يتحمّل المسؤولية في مجمل المآسي التي تعيشها تونس منذ انقلاب 25 يوليو (2021)، وهو المسؤول الرئيسي عن تفكيك وحدة المجتمع التونسي وتفتيت الجبهة الداخلية. علاوة على انخراطه في سياسة المحاور والتقاطبات داخليا وخارجيا، لتكبيل التحوّل الديمقراطي وخنقه. وفي كل خطابٍ يلقيه، يمرّر رسائل مسمومة ومفخّخة. وهو يتباهى ويفتخر بصواب وجهة نظره وسدادها، وسلامة موقفه ونقاء طويته ونظافة يده. أليس هو مهندس التصعيد والتوتر ومعرقل كل الحلول؟ أليس هو صانع سردية التآمر التي تبنّاها ورعاها نظريا وإعلاميا ومؤسساتيا. وجعل منها أداةً لمعاكسة طموحات فئات عريضة من الشعب التونسي، خصوصا القوى والتنظيمات والأصوات المدنية والحقوقية والإعلامية التي عارضت اختياراته الانتحارية؟ أليس هو من وقف في وجه مطالبها المشروعة التي لا تتعدّى الرجوع إلى المسار الديمقراطي واحترام المؤسسات؟
من هذا المنطلق، على قيس سعيّد ألا يبقى تائها بدون بوصلة في بحر دغدغة عواطف الأنصار والعامة، واللعب على حبال ازدواجية المواقف، وتسويق خطابات تمويهية لا تعكس الحقيقة، بل تقفز على ما يحبل به الواقع، من مؤشّرات ومعطيات مؤلمة وقاسية، لتضليل الرأي العام الداخلي والدولي، فكيف يمكن أن نصدّق تشدّقه بأنه ليس طرفا في الأزمة الحالية التي تعصف بالبلاد؟ وكم يلزم من الغباء والسذاجة ليثق معارضوه والعالم في ما يروّجه من أطروحات تتعلق بالإصلاحات وتصحيح المسارات. وتحصين تونس الثورة من الانحرافات والانزلاق إلى الأسوأ؟ خصوصاً أنه نصّب نفسه محاميا يرافع عن ثورةٍ لم يظهر له فيها أثر، ولم يترك في يومياتها وأدبياتها بصمة، وهو ما يدعو فعلا إلى الاستغراب والشفقة في الوقت نفسه.
لم يكتف قيس سعيّد بتدمير الجبهة الداخلية وتخريبها، بل سعى أيضا إلى تدمير ثوابت الدبلوماسية التونسية، عبر سياسة المحاور والاستقطاب السلبي، فقد وجّه طعنة غادرة للمغرب، وأدمى تاريخا مشتركا من الوفاء والوفاق والاحترام المتبادل، وأجهز على ثابت بنيوي في السياسة الخارجية التونسية. عندما أقدم على خطوة غير مسبوقة تمثلت في استقبال إبراهيم غالي رئيس جمهورية وهمية، وزعيم جبهة البوليساريو الانفصالية المدعومة من الجزائر، لحضور قمة طوكيو الدولية للتنمية في أفريقيا، في العاصمة تونس السنة الماضية، ما دفع الرباط إلى استدعاء سفيرها، ليتسبب تصرف سعيّد غير المحسوب، أو المتعمّد أو المملى عليه، في أزمة دبلوماسية مع المغرب، ما زالت قائمة، سيما أن السلطات المغربية اعتبرت ما صدر عن الرئيس سعيّد توجها عدوانيا، ووصفت آنذاك ترحيبه بزعيم "بوليساريو" بأنه عملٌ خطير وغير مسبوق، يجرح مشاعر الشعب المغربي وقواه الحية.
قيس سعيّد هو المسؤول الرئيسي عن تفكيك وحدة المجتمع التونسي وتفتيت الجبهة الداخلية
لقد اختار قيس سعيّد السياق الخطأ والزمن الخطأ، قصد التضليل وشحن فئاتٍ من المجتمع التونسي. وجنح إلى خطاب الشرعية الانتخابية التي يتحصّن بها في كل إطلالة إعلامية أو تصريح قد يدلي به من دون سببٍ موضوعيٍّ ومعقول. ويحرص على إعادة إنتاج الخطاب نفسه، عبر مؤسّسات وقنوات وأدوات، ليبقى هو المحتكر والمتحكّم الوحيد في شؤون البلاد ومفاصل الدولة، والمنتج الرسمي للسردية المندورة لتسويغ عمليات تزوير الواقع والوقائع وشرعنتها، وقلب الحقائق وتضبيع أجيال تائهة ومغتربة اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وإثقال كاهلها وحشو عقولها وقلوبها، بجرعاتٍ وافيةٍ من الكراهية والعدوانية والضغينة، والشك تجاه مختلف مكوّنات المعارضة، وفي مقدمتها جبهة الخلاص الوطني، والنظر إليها أنها مصدر كل المصائب ومشتل شتى المؤامرات.
وظهر جليا من خلال مجموعة من السلوكات والمواقف والخطابات والأوهام أن الرئيس قيس سعيّد بلغ درجة متقدّمة من الخبل والجنون والهلوسة والنرجسية والانفعال والعدوانية المجانية والبارانويا والانفعال والطيش والارتجال السياسي، لقصم ظهر معارضيه الذين تحوّلوا بالنسبة له إلى وسواس قهري وعقدة مزمنة ومرض نفسي عُضال يصعُب علاجه. وما لم يعِه قيس سعيّد أنه ليس هناك حاكم مطلق خال من التعثرات والأخطاء والمطبّات، وليس هناك رئيس متعالٍ على التاريخ والمجال، ومفصول عن جذوره ومكوناته الاجتماعية والثقافية، فالثقة المطلقة في الذات، وفي ما تملكه من قدرات وإمكانات، خدعة مطلقة، وقد تكون هي أصل كل مآسي هذه الذات وتصدّعاتها وشروخها، ومعها تصدعات وشروخ بلد بأكمله.
ومنذ علّق الرئيس قيس سعيّد العمل بالبرلمان، وأقال الحكومة، وصولا إلى الاستفتاء على دستور جديد فصّله على مقاسه وضمن به احتكار كل السلط والصلاحيات، رغم نسبة المشاركة الضعيفة في هذا الاستفتاء، أخذت الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية أبعادا خطيرة، وضعت البلاد بين فكّي المجهول، وفجّرت صراعات وتجاذبات حادّة، وانقسامات مزمنة. وأحدثت هذه الأجواء المحتقنة حالة من عدم الاستقرار والخوف مما يحمله المستقبل من مفاجآت، خصوصا أن ما حدث ويحدث يأتي في وقت تجتاز فيه تونس مرحلة عصيبة، على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية، كما أن الانتخابات التي سجّلت أدنى نسبة مشاركة ساهمت في استفحال الأزمة وتعميق الخلافات مع المعارضة التي وصفت البرلمان المنبثق عن تلك الانتخابات بأنه غير شرعي، لأنه منتوج طبيعي لمسار انقلابي، حوّله قيس سعيّد إلى رهان أمة ومشروع مجتمع، ورسم له المسارات، وهندس له خرائط الطرق، وحدّد له أهدافا وأجندة.
تونس في حاجة ماسّة الى قائد يعيد الثقة للمؤسسات، وينهي المسلسل الطويل من العبث السياسي
مؤكّد أن تونس باتت مصدر قلق إقليمي ودولي، ولم يعد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ينظران بعين الرضا والارتياح إلى ما وصلت إليه الأوضاع فيها من تردٍّ وتأزّم، وما تعرفه من أزمات وصراعات وتجاذبات وانتكاسات وردة كبيرة في مجال حقوق الإنسان وحرية التعبير والصحافة والحق في الاحتجاج. وقد أثرت هذه المؤشرات السلبية، بصورة مباشرة، على مسار التفاوض مع صندوق النقد الدولي، قصد الحصول على قرض يرهن مصير بلد وقدر شعب برمته. ليس هناك أدنى شك في أن تونس تعاني أكثر من أي وقت مضى من الهشاشة الديمقراطية ومن الارتجال السياسي ومن تصدّعات عميقة. ومؤكّد أيضا أن عوامل خارجية زادت الأزمة حدّة واحتداما، وأفرغت عليها مزيدا من الزيت، علما أن المحيط الإقليمي لتونس يوجد في أقصى درجات الاضطراب وعدم الاستقرار، بسبب حرب المصالح والصراعات الجيو سياسية بين قوى دولية وإقليمية متعدّدة.
ورغم هذا المقدار من التوتر، ورغم الانسداد الديمقراطي واحتباس المسالك المؤدّية إلى حلٍّ جذري للأزمة، يظهر جليا أن الحل الفعلي هو اقتناع الجميع بأن تونس هي للجميع، تسَع مختلف مواطناتها ومواطنيها، وأنها فضاء قادر على استيعاب كل التيارات والمرجعبات والإيديولوجيات، في إطار من الصراع الديمقراطي والنقاش الهادئ والحوار الوطني البنّاء، الذي لا بديل عنه. وربما يبقى هو السيناريو الوحيد الذي من شأنه أن يحمي البلاد من السقوط. وهنا تبدو التنازلات المتبادلة حتمية وضرورية لبلورة أرضيةٍ صلبةٍ للتوافق والوئام الوطني، لأن تونس أعظم من الكراسي، وأكبر من اختزال مخرجات الأزمة في مجرّد دستور جديد مثير للجدل، وبرلمان يفتقد إلى الشرعية الديمقراطية، كونه منتوج سياق سياسي استثنائي بكل المقاييس. تونس في حاجة ماسّة الى قائدٍ يعيد الثقة للمؤسسات، وينهي هذا المسلسل الطويل من العبث السياسي.