لو غيّرت الإدارة الأميركية سياستها تجاه إسرائيل؟
استضفتُ الشاعر محمود درويش، ظهيرة يوم 29 سبتمبر/ أيلول 1998، ليتحدّث مباشرة على الهواء ضمن نشرة إخبارية في القناة المغربية الثانية. تصادفت استضافته ذلك اليوم مع توجيه الولايات المتحدة تحذيراً إلى السلطة الفلسطينية من "خطر إعلان قيام دولة من طرف واحد"، لأن من شأن تلك الخطوة، في المنظور الأميركي، أن تعرقل عملية السلام. وقال درويش: "الموقف الأميركي بدلاً من أن يواصل ضغطه على الحكومة الإسرائيلية، لتذليل العقبات التي تضعها هذه الحكومة أمام عملية السلام، جاء لإعلان الحرب على إعلان الدولة الفلسطينية، وهو موقفٌ مضادٌّ لعملية السلام، وبمثابة حثٍّ للقوى الإقليمية والدولية من أجل التصعيد ودعم الاحتلال الإسرائيلي. ومؤسفٌ أن الذي يتخذه هو راعي السلام الأول، والراعي الأول للقرن الواحد والعشرين".
مؤكّدٌ أنه كلما لاح بريق أمل في النفق الطويل للمأساة الفلسطينية، وكلما تضافرت جهود المجموعة الدولية وتوافقت حول موقف موحّد، وخطت خطوات إيجابية، ودقّت ناقوس الخطر منبّهة ومحذّرة من هول الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي، إلا وتستخدم الإدارة الأميركية حق الفيتو، وتستنفر آلتها الدبلوماسية والإعلامية، ضدّ أي قرارٍ يمكن أن يلجم جنون حليفها المدلّل (إسرائيل) وحماقاته. وهذا ما فعلته بالضبط عندما أجهضت كل مشاريع القرارات في مجلس الأمن بهدف وقف فوري لإطلاق النار لأسبابٍ إنسانية. وبدا واضحاً، منذ بداية الحرب على غزّة، أن واشنطن لم تدعم مطلقاً وصراحة وقف إطلاق النار، بل اختارت التواطؤ مع حليفها، واستخدمت بشكل متواصل حق النقض، حيث جعلت منه هدفاً في حد ذاته. أكثر من ذلك، حرصت على تزويد إسرائيل بالسلاح وأقامت من أجلها جسراً جوياً دائماً.
إسرائيل، باعتبارها دولة احتلال واستيطان، هي التي تتحمّل المسؤولية الكاملة عمّا تعيشه المنطقة من تصعيد وتوتر وصراعات وحروب
ورغم كل الأدلة التي تبرهن على تورّط قوات الاحتلال في إبادة جماعية، وحرب تطهير عرقي، لا قيمة لهذا كله لدى الإدارة الأميركية. وربما تعتبر كل هذه الجرائم مجرّد ادّعاء. وكأن العالم بمواقف كهذه تحوّل إلى غابةٍ يؤطّرها قانون الغاب. علماً أن العنف يولّد العنف والكراهية تُفضي إلى الكراهية. كما أن الإقصاء والغطرسة والتنكر لحقوق مشروعة لشعب عانى طويلاً، وتحمّل كل أشكال الاضطهاد والقمع والإهانة والهمجية، التي تمارس عليه من قوات الاحتلال الإسرائيلي، تنتج بالضرورة ردود أفعال وتبعات غير محسوبة في أكثر من منطقة. وقد تؤدي إلى انفجار شامل، وانهيار غير مسبوق للسلم والأمن. وهنا يتعيّن على القوى الكبرى التي تعتبر نفسها محور العالم أن تعي أن التوتّر الحاصل في منطقة الشرق الأوسط والبحر الأحمر، وانتشار حركات مسلّحة في أكثر من رقعة جغرافية، راجعٌ، في المحلّ الأول، إلى عدم تمكين الشعب الفلسطيني من حقّه في دولة مستقلة كاملة الأركان والمقوّمات. وعلى هذه القوى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، أن تعي أيضاً أن إسرائيل، باعتبارها دولة احتلال واستيطان، هي التي تتحمّل المسؤولية الكاملة عمّا تعيشه المنطقة من تصعيد وتوتر وصراعات وحروب، وكل ما عدا هذا مجرّد تضليل وتهرب مقصود، غرضه ترك قوات الاحتلال تفعل ما تشاء تحت الحراسة والعناية المركّزة، والرعاية الفعلية للولايات المتحدة وحلفائها، وخير دليل على ذلك، اللجوء المتكرّر لاستعمال حق الفيتو، لمنع استصدار أي قرار ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي.
ليست سياسة ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين الخيار الأمثل والمسلك الأفضل لإدارة شؤون العالم
ليست سياسة ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين الخيار الأمثل والمسلك الأفضل لإدارة شؤون العالم، وإقامة علاقات دولية متوازنة وسليمة، وهذا ما يعجّل بإصلاح عميق وبنيوي للنظام العالمي لوضع حدٍّ لاختلالاته، فالصورة التي يوجد عليها في الوقت الراهن تعني غرق العالم في مستنقع من الاضطرابات وعدم الاستقرار والتسيّب والفوضى وعدم التحكّم في اتجاهات الأحداث. وقد يعرّض أكثر من منطقة لصدمات جيو-سياسية، ستغير معادلات وقواعد الاشتباك على أكثر من صعيد. ومن شأنها أن تُفسح في المجال أمام موجة غير مسبوقة من الكراهية تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل، على الرغم من كل الإغراءات والامتيازات التي يلوّح بها الطرفان، والتي يمكن أن تتحقق لعدة دول في المنطقة، في حال تطبيعها مع كيان الاحتلال، كما تذهب إلى ذلك الإدارة الأميركية بشكل خاص.
الرعاية الأميركية والغربية المطلقة لإسرائيل، ومساندتها كل مخططاتها الاستعمارية والتدميرية، جعلتا كيان الاحتلال يشعر بقوة استثنائية، دفعته إلى تمريغ القوانين والتشريعات الدولية والمنظمات الأممية في الوحل، غير مكترثٍ بما يصدر من قرارات وأحكام، وغير مهتمٍّ بمئات المظاهرات التي شهدتها وتشهدها دول عديدة، مندّدة بمجازرها وعنصريتها وتغوّلها. وتضخّم هذا التغوّل، بسبب غياب أي موقف عربي ودولي حاسم وجدّي، قادر على الضغط على إسرائيل، والحيلولة دون تماديها في حرب الإبادة الجماعية والتجويع والعقاب الممنهج لكل سكّان قطاع غزّة.
لم يبق للدولة الفلسطينية الموعودة أرضٌ يمكن أن تقيم عليها مؤسّساتها
وفي ما يشبه رفعاً للحرج الأخلاقي، بادرت مجموعة من الدول إلى طرح فكرة العودة إلى العملية السلمية، وفق حلّ الدولتين، علماً أن كثيرين من دُعاة هذا الحل هم أنفسهم تركوا إسرائيل تنفّذ مخطّطاتها التدميرية والاستيطانية بالضم والقضم والتوسّع، بحيث لم يبق للدولة الفلسطينية الموعودة أرضٌ يمكن أن تقيم عليها مؤسّساتها. وإذا بدا أن معظم الدول تؤيد خيار المسار السياسي، وإنهاء الصراع بناءً على حل الدولتين، وكون هذا الحل هو أيضاً مطلب فلسطيني، فلماذا لا تتخذ الإدارة الأميركية قراراً تاريخياً، وتعمل على إقامة الدولة الفلسطينية وتعترف بها، لتضع حكومة نتنياهو المتطرّفة أمام الأمر الواقع؟ ولكن ما يظهر أن الرئيس بايدن الذي تحيط بمواقفه كتلة من الغموض والضبابية غير جادٍّ في شعاراته، وما ينطق به قد يكون مجرّد حملة علاقات عامة، أملتها الظرفية الانتخابية. فلو اقتنعت واشنطن وقرّرت تغيير مواقفها وسياستها، وإحداث تحوّل في الوضع برمته في المنطقة، بما في ذلك إرغام إسرائيل على الاعتراف بدولة فلسطينية، ذات سيادة كاملة وعاصمتها القدس الشرقية، لوجد العالم نفسه أمام حقائق ووقائع أخرى، ولتجنّب كل هذه الحروب والمآسي والمنسوب العالي للكراهية التي تحوّلت إلى مكوّن بنيوي في سلوك المجتمع الإسرائيلي وتفكيره.
قد يؤوّل الحديث عن أفق سياسي للحرب على غزّة، ومطالبة نتنياهو بالقبول بحل الدولتين، طريقة لتحويل أنظار الرأي العام الدولي عن جرائم إسرائيل وتبييض وجه أميركا الذي تلطخ بدماء أطفال قطاع غزّة ونسائه، جرّاء وقوفها الأعمى إلى جانب الكيان الصهيوني. ثم إن واشنطن تحرص على إنقاذ إسرائيل من أي مأزق سياسي، ومن أي متابعات قضائية محتملة من محكمتي العدل والجنايات الدوليتين وغيرهما، أكثر حتى من حرص إسرائيل على ذلك.
تصطدم فكرة حلّ الدولتين بطبيعة العقلية الصهيونية، التي لم تؤمن في أي يوم بأن هذا الحل يمكن أن يشكل منطلق تعايش واستقرار
وليس هناك أي شك في أن رفض حكومة نتنياهو ومعه المعارضة حلّ الدولتين ليس مناورة تكتيكية بغية فرض مكاسب إضافية وتحقيق تنازلات جديدة، بل هو قناعة راسخة، وموقف ثابت نابع من العقيدة الصهيونية التي تعتبر الشعب الفلسطيني عدواً ثابتاً وجب طردُه وتهجيره. وحتى لو أكّد، بكل الطرق والأساليب، أنه لا يطلب أكثر من دولة مستقلة كاملة السيادة، وأنه يريد أن يعيش في سلام وأمن مع جيرانه، فلن يغيّر ذلك شيئاً في عقيدتهم التوراتية الصهيونية بخصوص سردية أرض الميعاد وإسرائيل التوراتية، علماً أن التوراتيين من معسكر اليمين المتطرّف، الذين يحكمون اليوم إسرائيل، لا يعترفون أصلاً بالشعب الفلسطيني.
لذلك، تصطدم فكرة حلّ الدولتين، موضوعياً وواقعياً، بطبيعة العقلية اليهودية الصهيونية، التي لم تؤمن في أي يوم بأن هذا الحل يمكن أن يشكل منطلق تعايش واستقرار ووئام. كذلك فإنه لم يكن جزءاً من مبادئ مختلف التسويات السياسية التي اقترحتها الإدارة الأميركية. وفي أفضل الحالات، يمكن أن توافق إسرائيل، بشروط، على كيان أقل من دولة، متحكم فيه ومفصل على المقاس، ومهندَس ومرتب وفق أجندتها وأهدافها ومنزوع السلاح ومحدود المساحة. وهذا ما يخطّط له نتنياهو، في إطار ما يعرف باليوم التالي بعد الحرب، فهو ومعه الائتلاف الحاكم والمعارضة، والأغلبية الساحقة من المجتمع الإسرائيلي، يرفضون بشكل قطعي قيام دولة فلسطينية. وفي هذه الحالة، تشكّل الوحدة الوطنية الفلسطينية الصخرة التي ستتكسر عليها كل المخطّطات المغرضة والمؤامرات الدنيئة، خصوصاً في ظل صمت عربي غير مسبوق، وتواطؤ غربي مفضوح. رغم أن صور جرائم الحرب والإبادة الجماعية، التي تطوف العالم مدار الساعة، تملك وظيفة الشهادة. كذلك فإنها تشكّل الحجّة الدامغة على هول ما حدث ويحدث في قطاع غزّة وفظاعته، وعلى عنف صادم وبلا حدود يصعب حتى تخيّله، حيث بلغ أقصى درجات الهمجية والتوحش. لا تترك هذه الصور مجالاً للشك أو التأويل، وتردّ على المشكّكين في حقيقة الإبادة الجماعية. لكن المؤسف أن الغرب، دولاً وأنظمة، ومنظومة قيمية وثقافية وإيديولوجية وعقدية، بقي سجين السردية الإسرائيلية التي ترسخت في أذهانه عبر عقود، علماً أن صور المحرقة والإبادة الجماعية في غزّة عنيفة وموجعة وصادمة بكل المقاييس، وتعكس واقعاً لا يحتاج للتأمّل والتحليل، بل يحتاج للتغيير والتصحيح.