الجزائر والمغرب .. التصعيد والتهديد أم اليد الممدودة؟
وجّه العاهل المغربي، محمد السادس، في الذكرى الثالثة والأربعين للمسيرة الخضراء (إلى الأقاليم الصحراوية المغربية) سنة 2018 عدة رسائل إلى السلطات الجزائرية، تعبيرا منه عن حسن النية وصدق الإرادة وصفاء الطوية، وتأكيدا على رغبة المغرب، رسميا وشعبيا، في إنهاء حالة الجمود والجفاء التي عمّرت طويلا، وأصابت العلاقات بين البلدين في مقتل، وفتحت أبواب الحروب الإعلامية والنفسية على مصراعيها، لنشر الأخبار الكاذبة والدعايات المغرضة والتأويلات الخاطئة والمعلومات المضلّلة. خاطب الملك أهل الحل والعقد في الجزائر، قائلا "أؤكّد اليوم أن المغرب مستعد للحوار المباشر والصريح مع الجزائر الشقيقة، من أجل تجاوز الخلافات الظرفية والموضوعية التي تعيق تطور العلاقات بين البلدين".
ولم تقتصر هذه الخطوة الجريئة والتاريخية على عزم المغرب الأكيد على تصفية الأجواء وتنقيتها فقط، بل عمد العاهل المغربي إلى تقديم اقتراح عملي إلى المسؤولين الجزائريين، تمثل في إحداث آلية سياسية مشتركة للحوار والتشاور، يتم الاتفاق على تحديد مستوى التمثيلية بها، وشكلها وطبيعتها، مهمتها، وفق الخطاب الملكي نفسه، الانكباب على دراسة جميع القضايا المطروحة، بكل صراحة وموضوعية، وصدقٍ وحسن نية، وبأجندة مفتوحة، و"من دون شروط أو استثناءات".
وقد شكلت سياسة اليد الممدودة من الملك محمد السادس تجاه الجزائر ثابتا بنيويا في مختلف خطبه. وكان لافتا أن جزءا كبيرا من خطاب العرش، في يوليو/ تموز الماضي، توقف طويلا عند الوضع الشاذّ وغير الطبيعي للعلاقات بين البلدين. علما أن العادة في المغرب أن يتعلق خطاب العرش باستعراض الإنجازات الكبرى والأساسية، التي تحققت في مختلف الميادين على امتداد سنة. وحمل الخطاب في طيّاته دلالة خاصة، ورسائل قوية وصريحة وصادقة، فقد دعا الملك الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبّون، إلى "العمل سويا، في أقرب وقت يراه مناسبا، على تطوير العلاقات الأخوية، التي بناها شعبانا، عبر سنواتٍ من الكفاح المشترك". وأضاف "من غير المنطقي بقاء الحدود مع الجزائر مغلقة. وأن ما يمس أمن الجزائر يمس أمن المغرب والعكس صحيح". وقال بلغة مؤثرة "المغرب والجزائر أكثر من دولتين جارتين، إنهما توأمان متكاملان. وإن الوضع الحالي لهذه العلاقات لا يرضينا، وليس في مصلحة شعبينا، وغير مقبول من طرف العديد من الدول. فقناعتي أن الحدود المفتوحة هي الوضع الطبيعي بين بلدين جارين، وشعبين شقيقين". واعتبر محمد السادس أن "إغلاق الحدود يتنافى مع حق طبيعي، ومبدأ قانوني أصیل، تكرّسه المواثيق الدولية، بما في ذلك معاهدة مراكش التأسيسية لاتحاد المغرب العربي". موضحا أنه "لا فخامة الرئيس الجزائري الحالي، ولا حتى الرئيس السابق، ولا أنا، مسؤولون عن قرار الإغلاق، ولكننا مسؤولون سياسيا وأخلاقيا على استمراره؛ أمام الله وأمام التاريخ، وأمام مواطنينا". وتشديدا على النية الحسنة، أكد الملك أن الشر والمشاكل لن تأتي "الأشقاء في الجزائر" أبدا من المغرب، كما لن يأتيهم منه أي خطر أو تهديد؛ لأن ما يمسّ الجزائر يمسّ المغرب، وما يصيب الجزائر يصيب المغرب. وكان لافتا أن الملك أسف "للتوترات الإعلامية والدبلوماسية، التي تعرفها العلاقات بين المغرب والجزائر، والتي تسيء لصورة البلدين، وتترك انطباعا سلبيا، لا سيما في المحافل الدولية".
اختار النظام في الجزائر طريق المغامرة والتصعيد والتعنت ولي ذراع المغرب بكل الطرق والوسائل
بعيدا عن أي مزايدة، ومن منطلق واقعي وعقلاني: هل يمكن لنظام سياسي براغماتي ومتعقل، ومنظومة عسكرية رصينة ومتزنة، وذات نظرة بعيدة ورؤية سديدة، وترسانة إعلامية مهنية وذات مصداقية، وهيئات حزبية مستقلة وفاعلة، أن تبخّس كل هذه الرسائل الإيجابية التي حملها خطاب العاهل المغربي، وأن تتفهها وتسخر منه؟
يتبين من خلال استقراء مختلف المؤشرات والمواقف، أن النظام في الجزائر اختار طريق المغامرة والتصعيد والتعنّت وليّ ذراع المغرب بكل الطرق والوسائل. والمؤسف والمؤلم، أنه مباشرة بعد الخطاب الذي وجّهه الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى الثانية والعشرين لتولّيه الملك. انخرطت كل وسائل الإعلام في الجزائر في الصف المعادي للمغرب، وأعلنت حالة استنفار جماعية، لتقصف بشكل جنوني، وبكل ما أوتيت، من حقد وعداء، النيات الحسنة وسياسة اليد الممدودة والحكمة المناصرة للحوار وحسن الجوار. والأدهى أن وسائل الإعلام الجزائرية أخرجت من قاموسها المتشنج كل النعوت التي تنمّ عن تجذّر مشاعر العداء والكراهية، حيث لم تتردّد غالبية الصحف التي تعكس مواقف النظام السياسي والمؤسسة العسكرية في رمي خطاب ملك المغرب بكل النعوت السلبية والقدحية، وتقزيم مضامينه التي فسّرتها بأن المغرب في موقف ضعف، ولم تجد أي حرج في الاستخفاف برموزه، والتهكّم على مؤسّساته وثوابته، وربما وجدت في التلذّذ باستعمال مصطلح المخزن (القصر)، منتهى السعادة، وإشباعا لجوعٍ رمزي مركّب، يتداخل فيه التاريخي بالنفسي بالجغرافي بالجيو - استراتيجي. وكأنها، باستهلاكها المبالغ فيه هذا المصطلح، تريد الإفصاح عن أنها حقّقت اكتشافا غير مسبوق يشبه المعجزة.
أصيب المغاربة بخيبة أمل كبيرة، وهم يتابعون الطريقة التي تفاعلت بها مكوّنات النظام السياسي والمؤسسة العسكرية ووسائل الإعلام الجزائرية مع الخطاب الملكي، علما أن الحقيقة الواحدة، وربما المطلقة، والمرّة في الوقت نفسه، والتي فرضت نفسها، أن المنظومة العسكرية المتنفذة كان واردا أن تعمد إلى رفع سقف العناد والاستفزاز، وفسرت رسائل الخطاب تفسيرا مقلوبا، يتماشى وعقيدة معاكسة المغرب ومعاداته، حتى لو بادرت أعلى سلطة فيه إلى خطواتٍ جريئةٍ ومسؤولة، لا يمكن لعاقل أن يصدّها، أو يردّ عليها بمواقف سلبية ومستفزة.
وإذا كان الأمر يتعلّق بخطاب رسمي، لرئيس دولة في مناسبةٍ ذات رمزية وحمولة خاصة، فإن الأخلاق السياسية والدبلوماسية، ومقتضيات التاريخ والجغرافيا، تفرضان تعاملا خاصا في مثل هذه المقامات والسياقات. لأن غياب اللباقة واللياقة وقواعد الاحترام والتقدير حجة دامغة على وجود موقف جزائري رسمي، يرفض الحوار وحسن الجوار والسلام والوئام.
بعد اتهامات غير معلّلة وغير مبرّرة، قرر النظام في الجزائر قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ووقف العمل بأنبوب غاز المغرب العربي
وخلافا لما حصل في الجار الشرقي، تفاعل المغاربة، على نطاق واسع، مع ما جاء في الخطاب الملكي، بخصوص العلاقة مع الجزائر، وراهنوا على انتصار الحكمة والتعقل وحسن الجوار على التوتر وسياسة الهروب إلى الأمام في الجزائر. وهذا ما عكسته بجلاء شتّى المواقف التي عبّرت عنها الأحزاب السياسية والتنظيمات المدنية ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي وآراء المحللين ومختلف مكونات الحقل الإعلامي المغربي.
الحقيقة الموجعة أن النظام في الجزائر اختار التصعيد نهجا في علاقته مع المغرب، حيث قرّر، بشكل متدرّج، وبعد سلسلة من اتهامات غير معلّلة وغير مبرّرة، بما في ذلك اتهام المغرب بالضلوع في الحرائق التي شهدتها منطقة القبايل الصيف الماضي، قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ووقف العمل بأنبوب غاز المغرب العربي الذي يمر عبر الأراضي المغربية صوب إسبانيا وصولا إلى البرتغال، قبل أن ينتقل إلى إغلاق مجاله الجوي أمام الطائرات المغربية، مدنية وعسكرية. وهذا القرار الذي اتخذه المجلس الأعلى للأمن في الجزائر في هذه الظرفية بمثابة إعلان حرب، واستهداف للاقتصاد المغربي، علما أن الدستور الجزائري يعتبر أن المجلس الأعلى للأمن مؤسسة استشارية، وليس مؤسسة تقريرية، الأمر الذي يجعل المراقبين يستنتجون أن مثل هذه القرارات ذات العواقب الوخيمة تمليها المؤسّسة العسكرية بقيادة الفريق سعيد شنقريحة. وهذا ما تعكسه افتتاحيات مجلة الجيش، الصادرة عن المؤسسة العسكرية والناطقة باسمها، والتي باتت تحدّد مواقف السلطة السياسية وتوجهاتها، وتتحكّم في تحديد نوع الخطاب الذي يجب أن تستعمله هذه السلطة ومختلف المؤسسات الإعلامية التي تعيد نشر هذه الافتتاحيات على نطاق واسع، وتعتبرها بمثابة خط تحرير، لا يجب أن تحيد عنه. وهذا ما كررته افتتاحية المجلة للشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، أن المغرب دأب على التخطيط لأعمال عدائية منذ استقلال الجزائر، وأن هذه الأخيرة تحلت بأقصى درجات ضبط النفس في مواجهة أعمال استفزازية مغربية خطيرة وممنهجة ضد الجزائر، وهو ما ينمّ عن العداء الشديد الذي يكنّه المخزن للجزائر. وكتبت المجلة، بدون أدنى حرج، إن المغرب مسؤول عن إشعال حرائق تيزي وزو وبجاية. وإن القرار الذي اتخذته السلطات الجزائرية قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب سيادي ومؤسس، على خلفية اعتداءات عديدة ومتكرّرة وموثقة للنظام المغربي.
القيادة السياسية الحكيمة والناجعة هي التي تمتلك الخيال السياسي الفعّال والقدرة على الاستباق والتوقع، وتؤمن بأن حل الأزمات يمر عبر الحوار
لقد بات واضحا أن الجزائر الرسمية تشهر ورقة التهديد والوعيد والاستهداف العسكري. وتتحدّث صحافتها، بكثير من التشفّي، عن رغبة المنظومتين، السياسية والعسكرية، وإصرارهما على ضرب الاقتصاد المغربي. والسعي، بكل الطرق والوسائل، إلى محاصرة مشاريعه الاستراتيجية واختراقاته الدبلوماسية، والعمل، بوعي أو بدونه، على جرّ المنطقة إلى مغامراتٍ عسكرية ليست في صالح أي طرف.
القيادة السياسية الحكيمة والناجعة هي التي تمتلك الخيال السياسي الفعّال والقدرة على الاستباق والتوقع، وتؤمن بأن حل الأزمات، مهما استعصت، يمر عبر الحوار والتفاوض بدون عقد. والقيادة السياسية الرصينة هي التي تتوفّر على إمكانات غير محدودة لفهم حاجيات المجتمع وقراءتها، واتخاذ القرارات بصورةٍ سليمة، والسعي إلى حل الأزمات بدل تصديرها، وتركيز الأنظار على عدو وهمي، هو من صميم صناعة المؤسسة العسكرية واختراعها، وهي التي تسوّق خطابا مفاده بأنها الجهة التي تملك شرعية الائتمان على البلد، وأنها وحدها تعرف من الذين يريدون إلحاق الأذى به، وهي التي من حقها أن تقرّر مصيره السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وعلى كل مكونات المجتمع أن تؤمن إيمانا راسخا وظاهرا وواضحا بهذه الأطروحة.
تبعا لذلك، من يوجد في هرم السلطة لا يجب أن يكون رديفا للمزايدة و"البوليميك" السياسوي والشعبوي والعواطف الثورية الجارفة والجامحة التي تجاوزها الزمن، لأن مثل هذه العواطف لا تنتج استراتيجيات، ولا تبني مؤسسات، ولا تصوغ قوانين، ولا تنزل دساتير، ولا تبني علاقات سليمة مع الدول، خصوصا التي تقع في الجوار الجغرافي.