إنكم تصنعون ذاكرة "الهولوكوست الفلسطينية"

إنكم تصنعون ذاكرة "الهولوكوست الفلسطينية"

08 نوفمبر 2023
+ الخط -

قد لا تعني الكتابة اليوم، أمام الفظاعة الإنسانية التي تٌرتكب يوميا في غزّة الشهيدة، أي شيء عندما تكون الكلمات نفسها فارغة، ليس لأنها فاقدة المعنى، وإنما لأن المعنى نفسه أصبح عبثيا. ولكن لا شيء سيبرّر السكوت عن قول الحقيقة أمام قسوة التاريخ الذي يُكتب دائمًا بأثر رجعي، مع أن الحقيقة تبدو اليوم أمامنا واضحةً تمامًا وعاريةً عري المسمار.

تأتي الكارثة، كما يُقال، من الكلمات وتبدأ بالكلمات، فماذا إذا لم يعُد للكلمات أي قيمة؟ إن جملة من الكلمات التي تتشكل منها المعايير التي يتأسّس منها وعليها وعينا الأخلاقي والسياسي الجمعي هي ما يجعلنا قادرين على التمييز بين الخير والشر، والظلم والعدل، والجلّاد والضحية، كما أن مفاهيم، مثل الحرية والديمقراطية والكرامة، ليست مجرّد شعاراتٍ نرفعها لادّعاء تحضّرنا، وإنما هي ثقافة وذاكرة جماعية مشتركة بين تجارب الشعوب. فما بالك إذا استحالت كلها إلى ستار دخان ضخم وكثيف لحجب قول الحقيقة عن جريمة العصر التي نراها تُرتكب يوميا أمامنا؟!

هذه اللامبالاة، بل والاستهانة، من الحكومات الغربية، التي تتحدّث اليوم إلى نفسها، بتبريرها قصف الأبرياء وقتل الأطفال بالقنابل المدمّرة وفرض عقاب جماعي على أكثر من مليونين وثلاثمائة ألف مدني في غزّة، بدعوى حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، هي إهانة كبيرة تجاه إنسانيتنا واحتقار لذكائنا البشري واستهانة بكل القيم الإنسانية المشتركة التي نراها اليوم تُدمّر، كما تُدمّر بيوت الغزّيين الأبرياء على رؤوسهم وهم نيام.

ما يحدُث في غزّة اليوم يتّخذ كل سمات الإبادة الجماعية، بل والجريمة ضد الإنسانية التي تجب إدانتها بكل الكلمات القاسية التي تُعرّي الجلاد من كل التبريرات الواهية التي يتذرّع بها لارتكاب جرائمه، وتفضح المتواطئين معه الذين يحاولون إخفاء آثار بُقع الدم الذي يٌلطّخ أياديهم. فكيف يمكن وصف القصف المكثّف والمدمّر والمستمر منذ 33 يوما لسكان غزّة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، وهم المحتجزون في تلك البقعة الضيّقة والمكتظّة مثل صندوق عود الثقاب، تُدمّر بيوتهم على رؤوسهم أمام أعيننا على الهواء مباشرة، ومن تُكتب لهم النجاة من بينهم يهيمون على وجوههم مشرّدين وتائهين يهرَعون نحو المجهول، حيث الدمار والموت واليأس ينتظرهم في كل مكان. محرومين من الكهرباء والغاز والغذاء والماء والدواء، بل وحتى من الحلم ومن انتظار ساعة الفرج التي لا تأتي.

سيأتي اليوم الذي سيبدو فيه شخصٌ، مثل بن لادن وفكره المتطرّف، لطيفاً جداً مقارنة مع أجيالٍ جديدة من التطرّف

إسرائيل التي وُجِدت تجسيدا لفكرة الحفاظ على ذاكرة المحرقة اليهودية هي من تقوم اليوم بالاستغلال البشع لتلك الذاكرة لارتكاب جرائم لا تقلّ فظاعة عما تختزله ذاكرتها عن المحرقة التي اقترفتها النازية. ما ترتكبه اليوم إسرائيل من جرائم بشعة تسيء، أولا، إلى ذاكرتها، أو إلى الذاكرة التي بنت عليها أسطورتها، فحربُ الإبادة الجماعية التي تشنّها ضد الفلسطينيين باسم ذكرى المحرقة لن تؤدّي إلا إلى الإساءة إلى تلك الذكرى وتشويه سمعتها، وهو ما سيؤدّي حتما إلى نتائج عكسية لما تحاول الدعاية الصهيونية ترويجه، أي إلى إضفاء الشرعية على معاداة السامية التي نراها اليوم تتعاظم في العالم، ليس انتصارا للفلسطينيين فقط، وإنما أيضا احتجاجا على بشاعة جرائم الإسرائيليين. فإذا كان الغرب، المتهم بالتواطؤ في محرقة اليهود عن طريق ارتكابها والمشاركة فيها مباشرة أو السكوت عنها وقت وقوعها، مدينا بكل الدعم والحماية التي يوفرها اليوم لإسرائيل، وقد رأينا كل زعماء هذا الغرب الديمقراطي والمتحضّر يحجّون إليها لتقديم الدعم والولاء لحكومتها المتطرّفة ولدولتها المبنية على أسس عرقية ودينية عنصرية، فإن مسؤولية ذاكرة الإبادة التي تجري اليوم في غزّة بضوء أخضر من ممثلي القوى الغربية نفسها، بل وبدعم علني منهم بالسلاح والعتاد والمال، سيتحمّلها الغرب نفسه الذي كان مسؤولا عن إبادة اليهود فوق أرضه بدعم منه، وحماية وتغطية وتغاضٍ منه، فما أشبه الليلة بالبارحة!

ما كان لكل هذا الإمعان في الإجرام البشع الذي تجاوز كل الحدود أن يستمرّ لولا هذا الدعم والتواطؤ الغربي، وقبل ذلك لولا هذا السقوط الغربي الأخلاقي المدوّي المخيّب للآمال والمثير للشفقة، والذي يمكن تلخيصه في كلمةٍ واحدة، أن الثقة، ثقة كل من يحمل ضميرا إنسانيا، اهتزّت في الغرب وحكوماته، أما القيم فهي إرث إنساني وحضاري كانت وستبقى، لأن الذي سقط وانفضح هو هذا النفاق الغربي الرسمي المقيت، وهذه الازدواجية الرسمية الفجة في المعايير التي فجّرت غضبا شديدا متصاعدا في الشارع عبر العالم لن ينطفئ غدا مع وقف إطلاق النار، لأن عواقب ما حدَث ويحدُث لن تتوقّف مع توقف قصف البيوت وتدميرها فوق رؤوس أهلها الآمنين، وإنما ستبقى تتراكم في أذهان كل الذين عاشوه أو شاهدوه حتى ينفجر مثل بركانٍ لا أحد يعرف متى وأين سيقذف بحممه.

حوّلت إسرائيل غزّة إلى أكبر محرقة مفتوحة في التاريخ تقذفها بحمم النيران القاتلة والمدمّرة منذ أكثر من شهر بدون توقّف

ويكفي أن نقول بأن أجيالا عربية كثيرة حالية ممن لا يعرفون الهولوكوست اليهودي، ولم يسمعوا به، لأنهم لم يعيشوه، ولا علاقة لهم به من قريب أو بعيد. ومع ذلك، قد تجد بينهم من يصدّق وقوعه، لكن الأكيد أنهم عاشوا ويعايشون، وشاهدوا ويشاهدون مباشرة أكبر هولوكوست معاصر تتعرّض له غزّة وسكّانها العزّل الأبرياء التي حوّلتها إسرائيل إلى أكبر محرقة مفتوحة في التاريخ تقذفها بحمم النيران القاتلة والمدمّرة منذ أكثر من شهر بدون توقّف. وكلما استمرّت هذه المحرقة الفلسطينية التي يتابعها العالم على الهواء مباشرة سيصبح الحديث عن المحرقة اليهودية مثيرا لعدم الثقة وعدم التصديق عند الأجيال المعاصرة وتلك القادمة، وقد ينتهي الأمر بكثيرين إلى الاعتقاد أن تلك المحرقة ما هي إلا أسطورة اختُرعت للدفاع عن مصالح إسرائيل والغرب، وقد تتحوّل ذكراها إلى لا شيء أمام فظاعة ما يحدُث في غزّة وللفلسطينيين فوق أرضهم التاريخية.

إن محاولة إسقاط ذنب "الهلوكوست اليهودي" على العرب وحدهم، وعلى الفلسطينيين خصوصا، كان ثمنه صناعة هولوكوست فلسطيني سنرى آثاره المدمّرة في المستقبل العاجل أم الآجل عند الأجيال القادمة، فلا يجب أن ننسى أن الجرائم التي يرتكبها الظالم أسوأ بكثير من كل أنواع الإجرام، وذاكرة المظلوم هي التي تصنع الهولوكوست الذي ستبقى ذكراه راسخةً في ذاكرة الأجيال المقبلة التي عاشته وشاهدته وتابعته مباشرةً على الهواء، تتوارثه جيلا بعد جيل. وما لا يجب أن نغضّ الطرف عنه أن ناسا كثيرين في عالمنا العربي أصبحوا مدمنين على مشاهدة مناظر العنف البشع في غزّة ضد الأطفال والنساء والفقراء من المدنيين الأبرياء، ولا يمكن لهذا التعوّد إلا أن ينتج عند كثيرين منهم شعورًا بالخذلان واليأس والذلّ والحكرة والكراهية. وإذا لم يعالج العالم أسباب هذا الظلم، فإن رقعته قد تتّسع وحرائقه سوف تطاول الجميع. وسيأتي اليوم الذي سيبدو فيه شخصٌ، مثل أسامة بن لادن وفكره المتطرّف، لطيفا جدا مقارنة مع أجيالٍ جديدة من التطرّف التي تصنعها هذه العنجهية الإسرائيلية والصلف والغرور الغربيان.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).