نوري الجرّاح في مختارات مصرية: "أورفيوس" من سورية إلى فلسطين

نوري الجرّاح في مختارات مصرية: "أورفيوس" من سورية إلى فلسطين

14 فبراير 2024
نوري الجراح
+ الخط -

الشاعر السوريّ نوري الجرّاح (1956)، أحد الشعراء العرب المعدودين الذين على قارئ الشعر أن يرجع إلى أعمالهم الشعريّة وإن كان قد قرأها من قبل. منذ أن تعرَّفتُ على قصائده، إلى أن قرأت أغلب مجموعاته الشعرية، وحين شرعت بقراءة مختاراته "ألواح أورفيوس"، الصادرة حديثاً عن "دار الشروق" في القاهرة، وجدتُ نفسي أمام قصائد أعرفها معرفةً حقّة، وأعدتُ قراءتها مرّاتٍ كثيرة، لكنها جميع تلك القراءات لم تستنفدها. كما أن قراءتها الآن على وقع الإبادة الجارية في فلسطين - وهو المعروف بانتمائه إلى قضيتها - هي فرصة جديدة للعودة إلى ذلك الشعر الذي من شأنه أن يرجّ كافة أشكال الطغيان، ويستنطق أكثر الجراح العربية ألماً ونبلاً وبطولةً.  

تصدر هذه المختارات التي ضمّت قصائد من إحدى عشرة مجموعة شعريّة صدرت للجرّاح، اختارتها وقدّمت لها الأكاديميّة المصريّة ناهد راحيل، وتمثّل مُجمَل التجربة الشعريّة الغزيرة للشاعر، ابتداءً من ديوان "الصبيّ" (1982)، ومن ثمَّ "مجاراة الصوت ورجل تذكاريّ" (1981 - 1988)، و"كأس سوداء" (1993)، و"صعود إبريل" (1996)، و"حدائق هاملت" (2003)، و"طريق دمشق" و"الحديقة الفارسية" في مجلدٍ واحد (2004)، و"يوم قابيل والأيام السبعة" (2013)، و"قارب إلى لِسْبوس (2016)، و"نهرٌ على صليب" (2018)، و"لا حرب في طروادة" (2019)، و"ما بعد القصيدة" (2021).

كلُّ من ينقِّبُ في مناجم الجرّاح الشعريّة، يجدُ فعلَ الكتابة عنده يأتي بفعل التجربة التي أنتجت هذا الكمّ من القصائد، والتي تتجدَّد باستمرار. يبدأ هذا الفعل عنده لأسبابٍ كثيرةٍ - أفترضُها شخصيّاً هنا - أوَّلها أنَّ إمكانيَّة القيام بهِ على أتمِّ وجهٍ يأتي بهِبَةٍ قبل كلِّ شيء. فالعمليّة على أتمّها لا تُولد بالمصادفة، ولا من العدم، إنّما تقوم على وجود هذه الهِبَة التي تمكِّنُ صاحبها من أن يكونَ متمكّناً ممّا يفعل، وممارسات الجرّاح الشعريّة هي السبب الذي يكشف عن هذه الهبة وهذه المُكنة التي اختُصَّ بها.

شعر يرجّ الطغيان ويستنطق أكثر الجراح العربية نبلاً 

وثانيها أنَّ هذا الفعل يأتي استجابةً لنداءٍ داخلي، نداء الذات التي تريد أن تُظهر نفسها للوجود بفعلِ جُهوزيَّةٍ على ذلك، فتجلَّت في الكلمة، الكلمة التي هي سلاحه وثروته وتاريخه ووجوده. وثمَّة افتراضات كثيرة تدفع به للكتابة، فهو مُحمَّلٌ بهمٍّ إنسانيٍّ ينوبُ بهِ عن الجميع، وحساسيةٍ تجاه وجوده، هو الشّاعر بأزمة الموجودات، الباحث عن خلاصه وخلاصها، المُعزّي والمُعَزّى، المثكول بالمكان، والمسكون بالأسطورة، هو الدَّمُ الذي يجري دائماً في القصيدة:

"دمُ من هذا الذي يجري في قصيدتكَ
أيُّها الشاعر؟
من بقي هنا،
لينزفَ
مَن بقيَ هنا
ليقرأ ما كتب الأفقُ في الصحائف
وما تركَ شاعرٌ في القصيدة".

بالمقارنة مع مئات مما نقرأ، تبرز القصيدة الصامدة، التي لا تصدأ ولا تؤثِّرُ فيها عواملُ التعرية ولا تصبحُ هشَّةً بمرور الوقت، هي القصيدة ذاتها التي كلَّما قرأناها، عادت علينا باللذّة الأولى ذاتها، وبالدهشة ذاتها في الصورة والقوّة في اللغة، أي إنَّها تتجدَّدُ عندَ كلِّ قراءة، وتكشفُ عن شيءٍ خفيٍّ في كلِّ مرَّة. إذن كيف يُمكن أن نكتبَ قصيدةً بهذه المواصفات؟

تأتي هنا قصائد صاحب مختارات "ابتسامة النائم" الحائزة "جائزة ماكس جاكوب الشعريّة" في فرنسا (2023)، جواباً عن هذا التساؤل المشروع، جوابٌ يُفهم بقراءة القصائد قراءةً متأنّيةً فاحصةً مُتمعِّنة، قد تُحَقِّق قراءتُها مرَّةً واحدةً اللذّة المرجوّة، لكنها بالتكرار تُحقّق الوصول إلى الفهم المُركَّز للقصيدة، الوعي بها، والكشف عن بُنيتها الكاملة، ذلك الكشف الذي من شأنه أن يؤدّي إلى استيعاب كلّ محمولات القصيدة، من أفكار واستعارات وصُور وأجواء مشحونة بلُغة متينة. نقرأ في قصيدة "لم أكن في دمشق" من ديوان "قارب إلى لِسْبوس":

"وصلتُ إلى نهاري على حِصانٍ قتيل
وصلتُ 
ورأيتُ النَّهرَ مُحتَرقاً 
والأشجارَ هاربةً على الوادي
السماءُ أطبقت على الأرض
والفتى الصريع سدَّ بقامتهِ بابَ البيت.
لم أكن في دمشق عندما جاءَ الزلزال
لم أكن في جبلٍ ولم أكن في سَهلٍ
عندما ترجَّفت الأرضُ وتشقَّقت صور هي والهواء
كانت يدي الهامدة
تنبضُ في أرضٍ أُخرى،
رعدةٌ خفيفةٌ سرَت في جسدي
وضاءت يرقة في صدغي الجافّ
أهي الرسالةُ تسقطُ
في بريدي 
أم الربيع يتقلَّبُ في أرضٍ بعيدة".

تحفل قصيدة الجرّاح، على امتداد تاريخها، بمكمِّلاتٍ جماليّة اختصَّ بها في الكتابة الشعريّة العربية، حتى لكأنَّني أكاد أعرفُ قصيدته - ملامحها، من بين هذا الكمّ الهائل من الشعر، فهو قد ارتسم أسلوباً خاصّاً منح قصيدته خصوصيَّتها وحساسيَتها وتميّزها من غيرها. لا يكتفي بقول فكرتهِ عبرَ القوالب الشعرية فقط، عبرَ التشكيل اللغويّ أو التركيب الصوريّ كي ينتهي منها، بل يتجاوز ذلك عبرَ مُكمِّلاتهِ التي تجعل القول الشعريّ عنده ثلاثيّ الأبعاد، إنْ أمكنَ قول ذلك، من دراميّة المشهد، ومسرحيّة اللحظة، وإكساء حاضره بالأسطورة والحدث التاريخيّ، وهذا بدوره ما ينتج عن قصيدةٍ تؤدّي هذا الغرض، فللشاعر مرجعيّاته المعرفيّة في الكتابة التي تمنحه هذه الخصوصيّة، كما تعبّر الناقدة ناهد راحيل في تقديمها للمختارات، ففي قصائد الجرّاح: "حضور واضح لمرجعياتٍ معرفيّة خاصة، فرضها تعدّد الرّوافد اليونانيّة، واستقاء الأفكار البابليّة والتصوّف الإسلامي، وثقل الأنساق المعرفيّة الممثّلة في توظيف الأساطير والملاحم، والشخصيات التراثيّة المحلّية والكونيّة، وتحويلها إلى رمزيّة يبثّ الشاعر من خلالها أفكاره ورؤاه الخاصّة".

لا يتّكئ على الأسطورة بل يمرّرها عبر قصائده كخيط شفيف

يمكن عبر قصيدته على طولها وقصرها، أن تكون مشهداً نراه لحظة الكتابة، متنقّلاً على وجه السرعة المُشبِعة للعين، من مكانٍ إلى آخر، ومن زمانٍ إلى زمان، من حوادث وأشخاص وتفاصيل شخصيّة، إلى ما يتشابَكُ في العالم من علاقاتٍ وتناقضاتٍ وعُقد، وهنا تأتي دراميّة المشهد الشعري الذي يمنحُ القصيدة أبعادها التي تَتَّسع وتنفتحُ على إمكانية التخييل والتأويل؛ بحسب كلِّ من يقرأ. يمكن أن تكون قصيدة "موت نرسيس" من ديوان "صعود إبريل"، مثالاً من بين أمثلةٍ كثيرة:

"ربحتُ سلّماً في عراء، أتسلَّقُه وأقطفُ تُفّاح الموتى
ربحتُ منزلاً يطلعُ من صَفحةِ النَّهر
ربحتُ ذكرياتٍ، ربحتُ أرباحي
كم هي كثيرةٌ عليَّ، وكم كان نصيبي مُحقّاً ومُخفقاً.
ربحتُ إخوةً ينخرون ذاكرتي
وأخواتٍ يُبَدِّدنَ طريقي.
أنا بائسٌ ومريضٌ أنا ميِّتٌ ومُمَدَّدٌ
أنا في دهليز منزلك، أنتَ قلَّما تأكدتَ
أنا في طريقك...
صَرَخْتُ عليكَ، صرختُ خوفي فيك
أنا في طريقكَ
صوتي تعالى، وظلَّ خفيفاً وهوى
ولمْ ترني
لم تؤخذ بالذي هلكَ بالباب
وانتشر أريجهُ الطاغي في الغُرف".

لقصيدة الجرّاح والأسطورة علاقة متينة، قائمة على التشابه بين ما يستحضره الشاعر من واقعهِ وبين ما يقابلها من الأساطير التي تعامَلَ معها بذكاء عالٍ، حتى إنّه لم يتّكئ عليها كامل الاتّكاء، إنّما مرَّرها عبر قصائده مثل الخيطِ الشفيفِ الذي يرتق ما بين قطعتين، بحسب أنَّ التعامل مع الأسطورةِ له خصوصيَّته في النّص الشعريّ، لأنَّها تفرض وجودها بحكم قوَّتها وتاريخها، لكنَّه في الآن ذاته يفرض سطوته بتوظيفها بالطريقة التي يريدها هو، عبرَ ما يقوله بأسلوبه الخاص، منطلقاً من حاضره ومكانه وما يعيشه، يقول في قصيدة "كلمات هوميروس الأخيرة":

"لا حربَ في طُروادة،
لا بَحرَ ولا مَراكبَ ولا سلالمَ على الأسوار،
لا حصانَ خشبيّاً، ولا جنوداً يختبئونَ في خشبِ الحصان.
سأعتذر لكم يا أبطالي الصرعى:
'آخيل' بكعبهِ المُجنَّح،
'هكتور' بِصدرهِ الطُّرواديّ العريض؛
وأنتَ يا 'أغامِمنُونْ' بِلحيَتكَ البيضاء
وسيفكَ المُسلط على رقاب البحّارة الهاربين من المعركة". 

للأمكنة حضورها كذلك في القصيدة؛ أثرُها، وروحها وملامحها. فالجرّاح شاعرٌ رحّال ارتبطت قصائده بالترحال عبرَ المدن الكثيرة، التي خاض فيها تجارب إنسانية وثقافيّة وشعريّة، أنتجت قصائد لها علاقتها بالمكانين، الأول الذي لم يغادره رغم أنَّه خارجه، وهو سورية، والثاني هو ما يحطّ به رحاله، وما يترك أثره في القصيدة. فهو "شاعرٌ متوسطيّ يكتب بالعربيّة، منفيّ مُعلَّقٌ بين عالمين: عالم لغته الأولى في صقعٍ، وعالم الأرض التي لجأ إليها في صقعٍ آخر".

الصورة
غلاف الكتاب

لهذا فهو مؤرّخٌ. يؤرّخ لتاريخه الشخصيّ، وتاريخ مكانه وأمّته، يدوّن مصائبها ومآسيها أكثر ممّا يدوّن أفراحها - إن وجدت- وهذا ما فعله الجرّاح، فهو مؤرِّخٌ للوجع العربيّ - السوريّ والفلسطيني بشكل خاص، تغمره نزعةٌ إنسانيّة تحرُّرية، ويضجّ فيه شعورٌ بكلِّ من يعيش في هذه البقعة من الأرض، شعور الاغتراب والمأساة ومخاضات الحروب وما يتبعها من تتالي المآسي. فهو وإن كان يعيشُ منفياً عن بلاده، لا تغادره، ومثلما تسكنه سورية التي نراها في قصائده، نرى فيها أيضاً بقيّة البلدان العربيّة، وما يتعرّض له المضطهدون والمهاجرون والأطفال، من حرمانٍ وقتلٍ وتهجير، إنَّه ينطلق من بلاد الشام إلى العالم كلّه، وهكذا نرى العالم عبرها:

"أيها السوريون المُنتظرُون في حطام الأُوكروبول
لا ميناءَ في بيريوس
ولا سفن حتّى في رافينا
كلّ ما تراهُ العينُ من هنا بعد الماءِ الهارب في هاوية البحر
كتف بوصيدون ملطّخاً بالطمي
وذراعه الهامدة عند حطام المراكب.
عودوا إلى إزمير
أو موتوا هنا، في ظلال الأُوكروبول، كغبار الطلع تحت أشجار الغار".

ليس الحديث هنا محصوراً في مختاراته الشعريّة هذه، فهي وإن كانت تشتمل على مجمل ما كتبه الشاعر، إلا أنَّني أحاول أن أشير إلى عموم تجربته الشعريّة وطبيعة قصائده فقط، وأسلوبه الخاص في التعامل معها، في حين أنَّ الكتابة لن تكون كافية، بقدر قراءته قراءة واسعة للإحاطة بكلِّ ما ذكرته، وهنا أستعين بتعبير الباحثة ناهد راحيل في وصف الجرّاح بأنَّه "يشبه أشعاره؛ فهو لا يتعاملُ مع القصيدة بوصفها وسيلةً، بل باعتبارهِ هو نفسه جسدَ القصيدة، فقد عُرفَ بخطابه التخييلي الذاتي، فهو شاعرٌ يحوي إنتاجه الأدبي العديد من تجاربه الشخصيّة".

يمارس نوري الجرّاح في قصائده السحر كما كان يُمارسه "أورفيوس"، الكاتب والموسيقي الأسطوري في الميثولوجيا الإغريقيّة، والذي كانت تنقاد إلى أنغامه عندما يغنّي، جميع الكائنات، وتستأنس بهِ الوحوش الضارية. ربّما فعل أكثر من أورفيوس.


* شاعر من العراق

 

موقف
التحديثات الحية

المساهمون