ليس جديداً على المثقف العربي أن يغيب عن الواقع، لقد اعتدنا على هذا الغياب. لكن في ما يخصّ ما يسمّى بـ"صفقة القرن" فإن غياب المثقف العربي كان يبدو شبيهاً بالكوميديا السوداء، لأن المثقف العربي الذي كان يكتفي سابقاً بإعلان المواقف التابعة للسياسي والتي كانت تمتدّ كظلال باهتة للمواقف الحزبية أو الرسمية العربية دون أن تعبّر عن حقيقة المثقف وعن طبيعة علاقته بالواقع، بدا الآن كما لو أنه "أطرش في زفّة"، كما يقول المثل الشعبي، حيث إننا ننظر جميعاً إلى هذه المهزلة التي تخصّ وجودنا في التاريخ برمّته كما لو أنها كانت تحدث لأمّة أخرى في زمن آخر وفي مكان بعيد لا علاقة لنا به.
لقد اكتفى المثقف العربي بالتفرّج اليائس على ما يحدث، دون أن يكلّف نفسه عناء إطلاق المواقف كما كان يفعل سابقاً. إننا نتفرّج بصمت مهين على ما يلحق بنا من هزائم تثير السخرية، والمشكلة برأيي تكمن في أن المثقف العربي يمكن أن يشتغل في أي شيء إلا في الثقافة! لأن مهمة المثقف هي أن يرى ويقرأ ما يحدث قراءة عميقةً يتبناها السياسي ويتبعها ليصل إلى شاطئ آمن، لكن ما يفعله المثقف هو أنه يتبع السياسي بدل أن يتقدّمه، ويتبنّى قراءات السياسي ورؤاه بدلاً من أن يقرأ له هو ويرى له.
أعتقد أن ما يسمّى بـ"صفقة القرن" هي مجرّد سيناريو حتى هذه اللحظة، والسيناريو لا قيمة له إذا أجمع العرب على رفضه، لكن من الواضح أن العرب الذين اجتمعوا في البحرين ما اجتمعوا إلا ليبصموا موافقين على هذا السيناريو الذي لا يخدم إلا "إسرائيل" والذي سينتهي بهم خارج التاريخ كما هو مطلوب صهيونياً وأميركياً.
إن اجتماع البحرين الذي غابت عنه السلطة الفلسطينية هو اجتماع غير معني بوضع حلٍ منطقي لما يعتبرونه مشكلة فلسطينية، بل هو فخّ لاستدراج العرب للتطبيع مع "إسرائيل" بشكل علني تحت ذريعة العمل على حلّ المشكلة الفلسطينية، لكن ما سيحدث بناء على موافقتهم على "صفقة القرن" هو أنهم سيكونون جميعاً بدءاً من هذه اللحظة حلفاء لـ"إسرائيل" ليس في مواجهة ما يسمى بـ "الإرهاب"، بل في مواجهة الفلسطينيين وفي مواجهة أية نزوعات للمقاومة وبالتالي في مواجهة ذاتهم العميقة التي ينبغي لها أن ترفض الاحتلال والتبعية وأن تعمل على التخلّص منهما.
وظيفة المثقف الحقيقي أن ينتج قراءة عميقة وشجاعةً لما يحدث لا أن يكون تابعاً للسياسي الذي لا ينتج ولا يتبنى إلا القراءات العوراء التي تخدم وجوده فقط، وإذا لم يقف المثقف بشكلٍ قطعي ضدّ السلطة وقراءاتها وانحيازاتها التي نراها رأي العين الآن، فإنه لا قيمة لكلّ المواقف التي يسارع إلى إعلانها دون أن يكون لها ثمن مدفوع أو قيمة حقيقية على أرض الواقع.
القراءة فعل مقاومة واستنكاف المثقف عن إنتاج القراءة مهما حاولت السلطة أن تكمم فمه وأن تكبّل وعيه وأن تمنعه من رؤية الحقيقة وقراءتها - هو خيانة المثقف، ولذا فإن المثقف الذي يستنكف عن القراءة ويكتفي بإطلاق المواقف الشفوية ضد السلطة أو الإرهاب أو الاحتلال هو مثقف دجال وخائن ولا يقوم بدوره على النحو المطلوب.
* شاعر فلسطيني