ربما نمرّ بواحدة من أسوأ الفترات في تاريخنا، فقضايا الاستبداد تفرض سطوتها على الساحة العربية التي تتعرض إلى قصف مكثف من عدة جبهات، والمثقف العربي يجد نفسه بين شقي الرحى؛ أنظمة محلّية قامعة، ونظام عالمي داعم لها، وساعٍ لاستغلال وجودها، بما يحقق له أكبر المكاسب الممكنة، أما القضية الفلسطينية ومحاولات تصفيتها؛ فتقع لشديد الأسف على قائمة المكاسب التي صارت مستباحة؛ وما تعذر تحققه على مدار عقود ماضية، تتسارع الآن الخطوات تجاهه، وتتخذ التدابير اللازمة لتنفيذه، فيما أغلب حكّام البلاد العربية يمدون يد المساعدة؛ فيباركون المأساة وينشطون لاستكمال أركانها.
أظن أن المثقفين العرب والأحرار في أنحاء العالم مطالبون بإعلان مواقفهم، بشجاعة وصراحة وعلى الملأ؛ لا بين الجدران ووسط الجلسات الضيقة. نعلم جميعاً أن الأمر ليس بسيطاً ولا آمناً في ضوء استحكام القبضات الأمنية هنا وهناك، لكنه في الوقت نفسه أقل ما يجب.
لقد خذل كثير من المثقفين القضية الفلسطينية في الآونة الأخيرة، إما بالتجاهل أو الاستسلام لواقع مفروض، بل أحياناً ما صكَّ بعضهم مبررات مُخزية تبيح التنازل وتسوغ عملية الانحناء والركوع، وأعتقد أن إثارة الوعي العام، وطرح رؤى مستقلة، فعل لا يمكن أن نهرب منه، ولا أن نتملّص من القيام به مهما كانت الظروف؛ فثمة أجيال لا تكاد اليوم تميز العدو من الصديق، وثمة أجيال لا تفهم معنى الاحتلال، ولا تحفظ من التاريخ إلا القشور التي يراد لها حفظها، ولا تسجل ذاكرتها سوى ما يكرس حال الهوان والإذلال.
على كل حال؛ ربما على المثقف العربي أولاً أن يفتح عينيه على اتساعهما وأن يواجه ذاته، وأن يرى الوضع كاملاً دون إضافة رتوش ومحسنات، فإدراك الموقف بكامل نقائصه وتفاصيله الموجعة وأسماله البالية، خطوة باتجاه الغضب، والغضب دافع للتغيير، وأظن معايشة أوضاع التردي على المستوى الإنساني والحضاري والسياسي، على الرغم من كونها معاناة كبرى، إلا أنها فرصة نادرة - لمن أراد - يشارك من خلالها في صناعة التاريخ، وإزالة الأصنام التي طال بها المقام بيننا، ومن ثم البدء في بناء واقع عربيّ جديد؛ يضع ميراث القمع والاستبداد جانباً، ويضيء شعلة الحرية والمعرفة والضمير.
لقد كتب نزار قباني متى يعلنون وفاة العرب؛ وأظن شهادة الوفاة تكتب الآن، وعلينا أن نعيد إحياء أنفسنا بأنفسنا؛ إذا كان لنا الاحتفاظ بمكان لائق على وجه الأرض لا في أحشائها.
* كاتبة مصرية