المهاجرون الأفارقة في تونس

المهاجرون الأفارقة في تونس... هلع المصيدة والتباس السياقات

06 مايو 2024

مخيّم لمهاجرين في العاصمة تونس (18/3/2024/Getty)

+ الخط -

تحوّلت تونس، أخيراً، مصيدةً كبيرةً مفتوحةً على أفق لا نهاية له، يجري فيها الجميع وراء "قطعان" المهاجرين الأفارقة. الوسائل كلّها مُتاحةٌ من أجل إبعاد "الأشرار". تنقل وسائل الإعلام، وفيديوهات في وسائل التواصل الاجتماعي، مشاهد أفواجٍ من مهاجرين فارّين تلاحقهم قوات الأمن. يتسلّل هؤلاء خشية على حياتهم إلى أحراشٍ وغاباتٍ، وحتّى أبنية، تدفعهم غريزة البقاء إلى الإتيان بأعمال خطيرة. فقدان الأمان يُحوّل بعض بني آدم إلى كواسر خطيرة.
تسود حالة من الهلع الحقيقي وراء شائعات وروايات لا تخلو من تهويلٍ ومُبالغةٍ، تطلقها أطراف عنصرية، سواء الحزب القومي التونسي؛ أوّل من نظّر لتطهير البلاد من أفارقة جنوب الصحراء، أو جمعيات أخرى محسوبة على النظام. بل انخرط فيها مُحامون وقضاةٌ وجامعيون. كلّهم يقرعون جرس الإنذار خشيةَ تَحوّل البلاد إلى وطن بديل لهؤلاء. لا أحدَ مُتأكّد تماماً من صواب هذه السردية، ولكن أرقام المهاجرين ارتفعت فجأة، وغدوا "مشهداً مُريعاً" بشكل غير مسبوق، فيصبح التنكيل بهم مبرّراً ومشروعاً دفاعاً عن الوطن؛ مطاردةً، واعتقالات لم تَخْلُ من أعمال عُنْفٍ عُنصريةٍ. هناك أعمالٌ مُشينةٌ صدرتْ عن بعض المهاجرين يمكن تصنيفها جرائمَ؛ عنف، اعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة... إلخ، كما يحدُث في بلدان العالم كلّها، ولكنّ ذلك كلّه استعمل ذريعةً من أجل افتتاح موسم صيد المهاجرين في الهواء الطلق، بل بدأت دعوات تسري لتشكيل لجانِ دفاعٍ مدنيٍ تكون العينُ اليَقِظَة للدفاع عن البلاد. لا بواكي لهؤلاء المهاجرين في ظلّ عجز المُنظّمات الدولية وهياكل المجتمع المدني عن حمايتهم من التنكيل بهم، وقد سبق أن أطلق الإعلام الرسمي، وشبكات التواصل، حملات تخوين في حقّ هذه الهياكل والمُنظّمات، واعتُبِرَ أعضاؤها عملاءَ وخونةً تمّ شراؤهم من أجل القبول بمخطّطات توطين المهاجرين الأفارقة. حالياً، تنطلق دعوات إلى محاكمة تلك المُنظّمات أو طردها من البلاد.

في أيام قليلة، احتلّت قضية المهاجرين صدارة اهتمام الرأي العام، ولعبت وسائل إعلام وشبكات تواصل دوراً في بثّ مشاعر الهلع والكراهية تجاه المهاجرين

استجدّت هذه الموجة اللافتة من المهاجرين الأفارقة، وكذلك تهييج الرأي العام ضدّهم والعنصرية تجاههم، بعد حدثيْن مهمّيْن: زيارة رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني، التي كان موضوعها الرئيس مزيداً من إحكام التنسيق بين إيطاليا وتونس من أجل مواجهة الهجرة السرّية، إذ تلعب تونس دور الجدار الواقي المُهمّ قبل وصول المهاجرين إلى الشواطئ الإيطالية. تلت ذلك (بعد يومين) زيارة وزير الدفاع الإيطالي غويدو كروزيتّو، الذي تشير معطيات إلى تعهّده بدعم القدرات الأمنية والعسكرية لتونس حتّى تلعب دوراً أكثر فاعلية في مكافحة الهجرة. أما المناسبة الثانية، فهي اجتماع رؤساء البلدان الثلاثة: تونس والجزائر وليبيا، الذين أعربوا، في البيان الذي تلاه وزير الخارجية التونسية، عن حرصهم على مزيد من التنسيق بين البلدان المذكورة من أجل التصدّي لظاهرة الهجرة السرّية، وقد كانت تقريباً الموضوع المتداول الأبرز. جرى ذلك في سياقٍ ذكرت فيه وسائل إعلام تونسية أنّ السلطات تجد عناءً كبيراً في التنسيق الأمني مع جارتيها؛ الجزائر وليبيا. فكلّما "ساقت" القوات الأمنية قوافل المهاجرين إلى المناطق الحدودية للتخلّص منهم، عادوا إليها أكثر عدداً، فليبيا تشهد فلتاناً أمنيّاً في جُلّ معابرها. ولم تستطع سلطات طرابلس، بعد، بسط سيطرتها على المعبر الحدودي الأكثر أهمية مع تونس، وهو معبر رأس جدير، وقد استردّته، أخيراً، من قوات أمنية محسوبة على مدينة زوارة، في حين أنّ الجزائر تردّدت في التنسيق لدواعي غير معروفة حتّى الآن، بل أفادت مصادر صحافية دولية، وثّقت الأحداث، بأنّ قوات الأمن الجزائرية تعمّدت تجميع المهاجرين الأفارقة، ووضعهم قرب الحدود التونسية. إنّ غياب التنسيق بين البلدان الثلاثة وصعوبة توحيد المواقف قد تركا هامشاً واسعاً لمثل هذه الاجتهادات الخاطئة.

لا تخفي أوساط سياسية وحقوقية خشيتها أن تستعمل قضية اللاجئين الأفارقة ذريعة إمّا لتأجيل الانتخابات أو لإيجاد مناخ انتخابي سمته الرئيسة الخوف والتشبث بالرئيس

في أيام قليلة، احتلّت قضية المهاجرين صدارة اهتمام الرأي العام، ولعبت وسائل الإعلام المحلّية وشبكات التواصل دوراً مهمّاً في بث مشاعر الهلع والخوف والكراهية تجاه المهاجرين، حتّى بدا الخطاب عنصرياً في مواقع كثيرة. تعالت أصواتٌ عديدة تطلب توضيحات من السلطات الرسمية التونسية، بل دعا بعضُهم إلى تحقيق جدّي وموضوعي في ما يجري حالياً، والسياقات التي أفضت إلى هذا الارتفاع غير المسبوق في أعداد المهاجرين. لا تخفي أوساط سياسية وحقوقية عديدة خشيتها أن تتحوّل المسألةُ (على افتراض دقّة ما يُتَداوَل من ناحية حجم تدفّق المهاجرين وحقيقة تعامل السلطات الأمنية معهم) إلى استعمال هذه القضية الشائكة ذريعة من أجل إمّا تأجيل الانتخابات بذريعة الخطر الداهم، وهي الحجّة التي استعملها الرئيس قيس سعيّد لحلّ البرلمان وإلغاء الدستور والإجهاز على تجربة الانتقال الديمقراطي لاحقاً، أو إيجاد مناخ انتخابي سمته الرئيسة الخوف والتشبث بالرئيس الضامن الوحيد لوحدة تونس، ورفض أيّ محاولات توطين، وهي الأطروحة التي عبّر عنها سابقاً. آنذاك ستُطمس جميع القضايا الأخرى على غرار إطلاق سراح السجناء السياسيين، ووضع الحرّيات في البلاد، وندرة المواد الغذائية، فضلاً عن استئناف تجربة الانتقال الديمقراطي ذاتها. لقد كانت مسألة الهجرة، الرئيسية دوماً، ورقةً رابحةً في خطاب الشعبويات خلال السنوات المُتأخّرة الماضية.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.