ميسلون فرج... بيوت بين زلزالي غزّة والجائحة

ميسلون فرج... بيوت بين زلزالي غزّة والجائحة

05 مايو 2024
من المعرض (تصوير: حسين بيضون)
+ الخط -
اظهر الملخص
- ميسلون فرَج، فنانة عراقية، تستخدم موضوع البيوت للتعبير عن تجاربها والأحداث العالمية، مثل الحروب والجائحة، معتبرة البيت أكثر من مجرد مكان مادي.
- في معرضها بالدوحة، تعرض فرَج أعمالاً تغطي عقداً من الزمان، تعبر عن الخسارة والأمل، وتستكشف معاني الأمان والهوية في البيت خلال أوقات الأزمات.
- خلال الجائحة، استلهمت فرَج من عزلة فنانين كفان غوخ، معالجةً موضوع البيت بطريقة تجريدية، وتؤكد على قوة الفن في التعبير عن المشاعر الإنسانية وتجاوز الأزمات.

منذ عام 2014، كانت البيوت مجالات التعبير لدى الفنّانة العراقية ميسلون فرَج. ولم تكُن التشكيلية المُقيمة في بريطانيا مُنخرطة في مشروع بقرار ذاتيّ محض يتأمّل فكرة البيت على مهَل، بل استجابة رئيسية لزلزالَي الحرب والجائحة، وبينهما عودة الفنّانة إلى "أوّل منزل" في بلدها. على مدار عشر سنوات، كان على ميسلون فرَج أن تطرح، تحت ضغط اللحظة العنيفة، رُؤيتها التي تسيل منها الألوان والدلالات من خلال الاستعارة لا التسجيل.

هذا ما تمنحه عشرات اللوحات والمنحوتات الجصّية في معرضها "البيت. شهب وأجنحة: رحلة عشر سنوات 2014 - 2024"، المقام في "غاليري المرخية" بمقرّه في "مطافئ- مقرّ الفنّانين" بالدوحة، حتى الحادي والعشرين من حزيران/ يونيو المقبل، بالتعاون مع مشروع "دار حصّة للفنون"، وقد قالت صاحبة المشروع، الفنّانة التشكيلية القطرية هنادي الدرويش، إن الفكرة بزغت عام 2019، وهو المعرض الفردي الأول لفرج في منطقة الخليج العربي.

استأذنت الفنّانة الحضور بتقديم إطلالة تعريفية بهذه الأعمال عبر عقد من الزمن بدأ منذ 2014 واختتم في 2024، وما بين التاريخَين توسّعت الإبادة وصارت الجريمة في غزّة أبعد من تصوُّرها، وقد طلبت بصوتها الخفيض الواثق وقوف الجميع دقيقة حِداد.

تشمل الأعمال المعروضة عقداً من الزمن بين 2014 و2024

وهذه السلسلة الأُولى من رحلة السنوات العشر حملت عنوان "طيران بلا أجنحة"، وأُنجزت في أثناء عدوان الاحتلال على غزّة تحت اسم "الجرف الصامد". وكانت الفنّانة تُتابع التقليد الحربي للاحتلال وهو يُنذر سكّان البيوت أو العمارات المُراد قصفها بمناشير وضربات تحذيرية، تليها الضربة المُدمّرة وهي تُحيلها إلى رُكام.

الصورة
ميسلون فرج  - القسم الثقافي
ميسلون فرج (تصوير: حسين بيضون)

وقالت إنّ "الطيران بلا أجنحة هو الموازي بالضبط لعملية تدمير البيت، عبر انتزاع جناحَي الكائن وتَرْكه ليطير. وبهذا المعنى، كان الفلسطيني يُبلَّغ بأنّ بيته لن يعود موجوداً، ليس وحده، بل الجماعة التي يعرفها ويُقاسمها الذاكرة والعِقاب الجماعي. واستعارة الطيران بلا أجنحة لا تكتمل دون إدراك المعنى الوجودي للبيت/ العشّ الذي ونحن نحتفي بالطيران نكون مسكونين بالعودة إليه، أو حمله رمزياً في داخلنا".

وعليه جاءت قصاصات الخشب، كلّ واحدة منها ملوّنة بلون بالغ الدِّقّة والصراحة، تتجمّع بعضها مع بعض كأجنحة، غير أنها ثابتة بشدّة حتى تبدو بلا حراك. الحركة الوحيدة التي تخرج من السياق هي الدائرة البرتقالية التي تمثّل حبّة بُرتقال مجرّدة من كرويّتها وبسطح دائريّ لتكون كالشمس فوق الأجنحة.

الصورة
من معرض ميسلون فرج - القسم الثقافي
(من المعرض، تصوير: حسين بيضون)

لدى استعادة الصورة 2014، كُنّا في زمن الجريمة البشعة المستمرّة في 2024 على فلسطينيّي غزّة، حيث انتهت سياسة العقاب الجماعي التي تستهدف جزءاً من الفلسطينيّين، إلى جَرْف الوجود البشري، في حرب لا تكفيها إطاحة الأحياء السكنيّة بالقنابل بل ملاحقة الأفراد وخيم النازحين بالمُسيّرات وقذائف المدفعية.

في المرحلة المُوالية، تجاورت أعمال التجريد الهندسي في سلسلة "شُهب وأجنحة: من بغداد إلى باريس"، مع تجريدات على الألواح الرغوية  في سلسلة "تقاطعات". والحال أنّ اللعبة البصرية تعمد في "تقاطعات" إلى البساطة الهندسية وموهبة التلوين في قصاصات مركّبة كان يُمكن أن تكون تصميماً معمارياً لولا الإزاحة التي تخرجه من الجمال الوظيفي إلى انكشاف الذات.

لعبة بصرية تعمد إلى البساطة الهندسية وموهبة التلوين

وأتت تأمّلات النجوم والشُّهب التي أنجزتها خلال فترة إقامتها الفنّية في باريس عام 2018 من ذاكرة عراقية. ولطالما حكَت ميسلون فرَج في حواراتها الصحافية عن جُذورها التي لا تنقطع حتى وإن ولدت في أميركا، وعاشت أغلب عمرها متنقّلة بين ضفّتي الأطلسي، إلّا أن سنوات عيشها في البلاد منذ عام 1968 وخصوصاً عند دراستها العمارة في "جامعة بغداد"، رسخت بطاقة هويتها بوصفها مشروع فنّانة ستعرف طريقها من وادي الرافدين إلى العالَم.

الصورة
من معرض ميسلون فرج - القسم الثقافي
جانب من الحضور (تصوير: حسين بيضون)

من سطح البيت العراقي كانت النجوم الساهرة تظهر محتشدة في كتاب فنّي "آرت بوك" من الورق المقوّى يتوسّطها قمر. أما الشُّهب فخصّصت لها لوحات الكانفاس لتُثبّت عليها آخر صورة للشهب في رأسها، وهي التي يجب أن تكون رؤوس زوايا في مثلّث أو شبه مثلّث.

استعادت الفنّانة ذاكرةً تعلَق بالرُّوح تُمثّلها السطوح العراقية، التي تصعَد إليها العائلات للسهر والنوم هرباً من ارتفاع درجات الحرارة في أيام الصيف.

الثُّلث الأخير من السنوات العشر شهد واحدةً من أسوأ الجوائح التي عرفتها البشرية، "جائحة كورونا" بين عامَي 2020 و2022. وفي عزلتها، أنتجت عدداً كبيراً من اللوحات التي استلهمت عزلات فنّانين سابقين، مثل الهولندي فان غوخ الذي كان واقعاً تحت حرب خلاياه العصبية، والفرنسي هنري ماتيس الذي أذعن لعزلة فرضتها الحرب العالمية الثانية عليه، وقد اكتشف في الأثناء إصابته بالسرطان.

الصورة
من معرض ميسلون فرج - القسم الثقافي

غالبية لوحات المعرض قادمة من فترة الحَجْر الصحّي، ما جعلها تعمّق استكشافها ثيمة البيت. إنها ترى كلّ شيء وتُعيد رؤيته من داخل الحَجْر، ولا يظهر العالَم الخارجي إلّا نادراً في طيف خفيف من النافذة.

تنظر إلى أثاث البيت أُفقياً ومن الأعلى، وتعود ثانية لرسم مكان العُزلة كما لا يضع المرء قدمه في النهر مرّتين. إنه ليس مكاناً جامداً. حتى ما نسميها "الطبيعة الصامتة" تُدركها كما أدركها فنّانون آخرون، لا يُمكن أن تكون صامتة إذا ما نظرنا إليها مرّتين.

وكما فعلت في سلسلة "طيران بلا أجنحة"، تهرب ميسلون فرَج من السياق المُركّز في بؤرة اللوحة إلى خطف جزء منها ورميه بعيداً عن البؤرة. تُكرّر هذا في اللوحات التي تظهر فيها سِلال الفاكهة. هناك دائماً حَبّة برتقال وحيدة لا ترغب في العودة إلى السلّة، ولا أحد يُساعدها على ذلك، خصوصاً حين يُريحنا أنها تُضفي حركيّة مُتجدّدة.

يُذكر أنّ أعمالاً كثيرة للفنّانة هي من ضمن مقتنيات عامّة حول العالَم، بما في ذلك "المُتحف البريطاني" في المملكة المتحدة، و"المتحف الوطني للمرأة في الفنون" في الولايات المتحدة الأميركية، و"متحف روتردام" في هولندا، و"مؤسسة الآغا خان" في كندا والمملكة المتحدة، و"مؤسسة بارجيل للفنون" في الإمارات العربية المتحدة، و"المتحف الوطني الأردني" في عمّان، و"مركز الدراسات العربية الأميركية" في الولايات المتّحدة الأميركية.
 

المساهمون