7 سنوات على 30 يونيو: "دولة السيسي" تسحق المصريين

7 سنوات على 30 يونيو: "دولة السيسي" تسحق المصريين

29 يونيو 2020
توارت الأحلام التي دفعت المصريين للثورة (محمود خالد/فرانس برس)
+ الخط -
في سبتمبر/أيلول 2018، وبعد أشهر قليلة من إعادة انتخابه رئيساً للجمهورية لفترة ثانية في انتخابات هزلية، وقبل أسابيع من ظهور مشروع التعديلات الدستورية الذي تمّ تمريره ليضمن بقاءه في السلطة حتى 2030 على الأقل، بشّر عبد الفتاح السيسي المصريين بأنهم سيرون "دولة تانية" في 30 يونيو/حزيران 2020، والذي يصادف اليوم، أي في الذكرى السابعة للتظاهرات ضد الرئيس المعزول الراحل محمد مرسي. هذه التظاهرات التي خرجت بدعمٍ من الجيش والشرطة والاستخبارات المصرية، ومهدت للانقلاب العسكري في 3 يوليو/تموز 2013، بزعم إنقاذ شعب "لم يجد من يحنو عليه".

حينها، قال السيسي لدى افتتاحه مجموعةً من الكباري والطرق الجديدة، التي أصبح تعددها بفائدة ومن دونها، من أسباب تندر المصريين المستمر على نظامه وأولوياته: "في 30 يونيو 2020 سنقدم دولة بشكل مختلف خالص غير اللي إنتم موجودين فيها، بجهد الدولة والحكومة والناس، وجهد ولاد مصر". وبالفعل، يعيش المصريون اليوم في دولةٍ تختلف كثيراً عن تلك التي صعد السيسي لحكمها فعلياً منذ 7 سنوات، وإجرائياً منذ 6 سنوات عندما تولى الرئاسة. توارت أحلام عديدة راودتهم ودفعتهم للحراك الثوري في يناير/كانون الثاني 2011، كالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وغابت مكاسب كبيرة معنوية وأدبية وسياسية تحققت في أول عامين بعد الثورة على مستوى الحركة السياسية وتداول السلطة واللحمة الوطنية، وعلى حساب مجالات الخدمات الأساسية التي ذاق المصريون الأمرين من إهمالها. حصر السيسي الإنجاز في المنشآت دون المرافق، وكرّس تحكم الجيش المطلق في المجالات الاقتصادية والتنموية. وجاءت جائحة كورونا لتكشف هشاشة الوضع الاقتصادي، الذي لطالما قيل إنه تحسن واستقر، وضُعف المرافق التي كانت التقارير الحكومية تتباهى بتطورها في عهد السيسي، وانهيار المنظومة الصحية التي انكشفت سوءاتها تحت وطأة تفشي الوباء.

الجيش والأجهزة: احتكار السلطة وإهدار الكفاءات

منذ الأسابيع الأولى بعد الانقلاب على مرسي، ظهرت واضحةً رغبة السيسي في التنصل من الالتزامات التي تصورت القوى السياسية التي أيّدته أنه سيسعى لتحقيقها، وعلى رأسها تداول السلطة وترك الحكم للقوى المدنية. كانت البداية بتدخلات عسكرية وسلطوية عديدة في عمل لجنة الخمسين التي أعدت التعديلات الدستورية، ثم بالسيطرة على مقاليد التشريع عملياً عبر الرئيس المؤقت عدلي منصور، وتأجيل الانتخابات التشريعية التي كان مقرراً إجراؤها خلال 6 أشهر، وإجراء الانتخابات الرئاسية أولاً. ولدى ترشحه للرئاسيات، أصّر السيسي على ارتداء الزي العسكري، في رسالة بعدم التخلي عن المؤسسة العسكرية والرهان على الجيش في إدارة شؤون الدولة، وهو ما ترجمته توجهاته على جميع الأصعدة، خصوصاً الإدارة والاقتصاد.


لم يعتمد السيسي على رئيس وزراء عسكري أبداً، لكنه تعمد اختيار شخصيات ضعيفة تفتقد الكاريزما والرؤية، وحرص على الإشراف بنفسه على جميع الملفات. هذا التوجه شكّل دليلاً يضاف إلى أقواله التي تشكك دوماً في إمكانيات وكفاءة الآخرين، خصوصاً لو كانوا "مدنيين"، وهو التعبير الذي يطلقه مراراً بازدراء واضح، يقابله افتخار بالعسكريين ومشروعاتهم وإسهاماتهم، وبصفة خاصة الهيئة الهندسية للجيش والشركات الأخرى التابعة له. هذه الأخيرة تعددت أنشطتها بشكل غير مسبوق، من الطاقة إلى الأراضي إلى الزراعة وإنتاج اللحوم والأسماك، وأضفى السيسي على تلك المشروعات وصف "القومية"، على الرغم من كونها لا تعود على خزانة الدولة بشيء، وهي لا تنفذ تحت أي رقابة من الحكومة.

كما توسع السيسي في الاعتماد على الجيش والأجهزة السيادية والأمنية، ممثلة في الاستخبارات العامة والرقابة الإدارية والأمن الوطني، في مباشرة جميع المشروعات، على حساب الأجهزة الحكومية المدنية. وبات حضور تلك الجهات مكثفاً في جميع اللجان الرسمية والوزارات بممثلين عن الاستخبارات العامة والرقابة الإدارية والأمن الوطني، بما في ذلك الملفات الاقتصادية والخاصة بقطاع الأعمال العام والقطاع العام والتعامل مع المستثمرين.

وأصبح وجود ممثلين للرقابة الإدارية والاستخبارات العامة داخل جميع دواوين الوزارات والمحافظات أمراً طبيعياً، ومقيداً لجميع قرارات المسؤولين التنفيذيين الذين تحولوا إلى مجرد صور يمكن تبديلها في أي وقت. وتحت زعم دعم الشباب ودفعهم للمناصب القيادية، توسع السيسي في تعيين خريجي الأكاديمية التي أنشأها للتأهيل بمناهج استخبارية وعسكرية في جميع المواقع الحكومية العليا، متخطين الكفاءات الفنية والإدارية. وفي الواقع، أصبح هؤلاء الشباب أذرعاً تنفيذية للمتابعة وتقديم التقارير للأجهزة.

وتعطي جائحة كورونا نموذجاً حيّاً لتردي الهيكل القيادي الذي وضعه السيسي بتغليب أهل الثقة على أهل الخبرة، إذ كشفت الأزمة سوء مستوى قيادات وزارة الصحة الذين اختارتهم جميعاً الاستخبارات والرقابة الإدارية، وبعضهم من خريجي أكاديمية السيسي، وكذلك انعدام خبرة مديري المديريات الذين عمدت الاستخبارات والأمن الوطني خلال السنوات الثلاث الماضية لاختيارهم من أعمار صغيرة بحجة تصعيد الشباب، ولكن في الحقيقة لتنفيذ رغبة السيسي في خلق جيل تنفيذي موال له وحده. وجاء ذلك على خلفية التشكك الكبير في ولاء الكفاءات التي تنتمي لعهد الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك، وكذلك التشكيك في معظم القيادات الوسيطة بالوزارات الخدمية تحديداً، واستبعاد الآلاف من تولي الوظائف القيادية بناء على التحريات الأمنية والامتدادات الاجتماعية لجماعة الإخوان المسلمين وصلات القرابة التي تربط أعضاءها بالموظفين.

وليس أوضح لترسيخ هذا التوجه من منح السيسي الجيش والاستخبارات والرقابة الإدارية في قانون التعاقدات الحكومية، الذي صدر في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، ودخل حيّز التنفيذ في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، في "حالات الضرورة التي يقتضيها الأمن القومي"، سلطة التعاقد بطريقة المناقصة المحدودة، أو المناقصة على مرحلتين، أو الممارسة المحدودة أو الاتفاق المباشر. هذا الأمر كرّس ولا يزال وضعاً غير دستوري، قائم على التمييز الإيجابي لصالح تلك الوزارات (الخدمية) وأجهزتها على حساب باقي الوزارات والشركات، لا سيما أن تعبير "الأمن القومي" يبلغ من الاتساع ما يُمكّن كل وزارة من تفسيره كما تشاء، ويضمن لها أن تُدرج تحته كل تعاقداتها. علماً أنّ القانون يضمن "سرّية استثنائية" لخطط البيع والشراء المندرجة تحت اعتبار "الأمن القومي"، أي عدم نشر أي معلومات عنها على بوابة الخدمات الحكومية الإلكترونية.

ولا يمكن فصل هذه المزايا عن محاولة السيسي ودائرته الضيقة، إرضاء الجيش بتوسيع مجالات استفادته الاقتصادية، مقابل استخدام قوته وقدراته في إنجاز المشاريع وحماية النظام. هذا العامل المهم أدى إلى تغييرات عدة في بنية دائرة السيسي، فعلى الرغم من أن الرجل الأقوى فيها لا يزال صديقه اللواء عباس كامل، رئيس الاستخبارات العامة، إلا أن الشهور الماضية شهدت توسعاً في الاعتماد على عناصر جديدة من الجيش للربط الدائم بينه وبين الرئاسة. هذا الدور أسنده السيسي لمدير مكتبه اللواء محسن عبد النبي، لتلافي الصدام وإثارة الحساسيات بين قيادات الجيش وقيادة الاستخبارات، وفصل ملفات كل جهة عن الأخرى، مع الأخذ في الاعتبار استمرار الاستخبارات كجهة تحكم رئيسية في المشهد السياسي، لتلافي تكرار الصراعات الصغيرة بين الأجهزة وبعضها أو بين أجنحة فيها. وحصل ذلك منذ انتقال عباس كامل لإدارة هذا الجهاز خلفاً لخالد فوزي بعد أزمة ظهور المرشح الرئاسي الأسبق أحمد شفيق وإعادته لمصر من الإمارات، وتبين تلقيه مساعدات من ضباط كبار في الاستخبارات، كذلك احتواء مشكلة ظهور رئيس الأركان الأسبق سامي عنان، والذي كانت له مجموعات مؤيدة أيضاً داخل جهات مختلفة.

ويعبر اعتماد السيسي على هذا العدد المحدود من الشخصيات، عن أزمة عميقة داخل النظام وافتقاده للشخصيات السياسية التي يمكنها تقديم حلول غير اعتيادية وخارج سياق التعامل العسكري الفظ مع الأزمات التي تشهدها البلاد. فمصر "الدولة التانية في 2020"، لا يشتهر فيها اسم أي مسؤول بجانب السيسي، ولا يعرف المواطن في الشارع اسم رئيس الوزراء أو وزير الدفاع، وحتى الوزراء في الحقائب الخدمية كالصحة والتعليم والنقل والتموين عادوا للظهور بقوة الأمر الواقع (كورونا) بعد شهور من إخفائهم ومنعهم من التواصل ونشر صورهم في وسائل الإعلام بأوامر من الاستخبارات.


هزائم استراتيجية من تيران وصنافير للنيل

كان التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية في إبريل/نيسان 2016 مقابل مساعدات واستثمارات بعضها لم يأت أبداً، وكخطوة في إطار تحقيق التقارب بين الدول العربية وإسرائيل، نموذجاً على التفريط في مقتضيات الأمن القومي المصري والتفوق الاستراتيجي لأسباب واهية، ما أفقد مصر نفوذها في خليج العقبة. وعبّرت المراسلات السابقة على إتمام الاتفاق نهائياً، والتي دارت بين مصر وإسرائيل تحديداً، عن لحظة تراجع تاريخية لمصر كان الهدف الأول لها إقرار واقع جديد تدخل فيه دول الخليج العربي، وعلى رأسها السعودية، في علاقات سلام وتعاون دائمين مع دولة الاحتلال، تكليلاً لمسلسل طويل من محاولات التقريب. كما دخلت السعودية بذلك طرفاً في العلاقات الأمنية والسياسية القائمة بين مصر والأردن وإسرائيل، ارتباطاً بالتصور الذي كان يحمله السيسي وولي عهد السعودية محمد بن سلمان لـ"صفقة القرن" (خطة الإملاءات الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية)، قبل أن يتبين بعد ذلك مدى ضحالة التخطيط الأميركي للصفقة، واقتصارها على تقديم خدمات مجانية لدولة الاحتلال.

مهّد التنازل لطرح مشروعات مشتركة لاستكشاف غاز البحر الأحمر وإقامة محطات الإسالة بين مصر والسعودية وإسرائيل، بدعم من الشركات الأميركية التي سبق وانخرطت في مفاوضات تصدير الغاز بين مصر ودولة الاحتلال، وذلك كجزء من حزمة الدعم الأميركي لمصر في "صفقة القرن". وتتضمن الحزمة تخصيص مليار و500 مليون دولار لدعم الجهود المصرية المشتركة مع الإسرائيليين لإنشاء مركز إقليمي كبير للغاز الطبيعي، وتوظيف الإنتاج الكبير من الحقول المصرية، وتحسين جودة شبكات نقل الغاز والغاز المسال.

ويعتبر إنتاج وإسالة الغاز من المجالات التي يراهن عليها السيسي لتصبح مصر "دولة تانية"، ويحتل صدارة الأنشطة في مشروعه الممتد لإدارة الموارد "مصر-2030". لكن هذا لم ينعكس بأي صورة إيجابية على مصر، بل زادها تراجعاً وديوناً، حيث بدأت في يناير/كانون الثاني الماضي استيراد الغاز الطبيعي من إسرائيل، وفقاً لاتفاقية موقعة بين شركات من البلدين في العام 2018، وبسعر يقدر في المتوسط بنحو أربعة أضعاف الذي كانت تبيعه مصر لها بين عامي 2005 و2012، وبما لا يقل عن سعر عقود بيع الغاز داخل دولة الاحتلال، مربوطاً بسعر برميل النفط من خام برنت القياسي، أي نحو 4.8 دولارات لكل مليون وحدة حرارية. وبعد إضافة أسعار النقل والضخ، سيتراوح السعر بين 5 و5.5 دولارات لكل مليون وحدة حرارية، على الرغم من أن أسعار الغاز الطبيعي في الأسواق العالمية حالياً تصل في العقود الآجلة إلى نحو 2.2 دولار فقط لكل مليون وحدة حرارية، ما جعل الإسرائيليين يصفون الصفقة بأنها "إنجاز تاريخي" لهم.

واستراتيجياً أيضاً، وبذريعة الحرب على الإرهاب المستمرة دون طائل منذ 7 سنوات، سمحت مصر بمشاركة إسرائيل لها في عزل شمال شرق سيناء، وإخلاء العشرات من المناطق السكنية وتدميرها بحجة ملاحقة العناصر الإرهابية، ما أدخل الجيش في مواجهة طويلة الأمد وغير متكافئة مع أطراف متنوعة، وعمّق الخصومة بين أهالي تلك المناطق والدولة المركزية.

في الجهة المقابلة غرباً، قبلت مصر أداء دور المُسّهل للمخططات الإماراتية في ليبيا بالدعم المستمر والقيادة الاستراتيجية لمليشيات شرق ليبيا التي فشلت في استغلال مليارات الدولارات التي انهمرت عليها من أبو ظبي والرياض وجهود المرتزقة الروس. وحوّلت سياسات السيسي الانتقامية من الإسلاميين الدور المصري الذي كان قد بدأ في ليبيا في إطار التوفيق والسعي للمصالحة، إلى طرفٍ أساسي في الصراع، ما أفقد مصر ميزتها الاستثنائية كالدولة الأقرب من هذا البلد، حيث يعيش بها الملايين ممن تجمعهم صلات قرابة وأواصر دم مع الشعب الليبي.

وعلى المستوى القاري، وعلى الرغم من أن مصر ترأست الاتحاد الأفريقي العام الماضي، إلا أنها فشلت في تطوير صورتها السياسية وأدائها الدبلوماسي إزاء دول القارة. وانعكس هذا الواقع في عجز القاهرة عن اجتذاب التأييد في نزاعها الطويل مع إثيوبيا حول سدّ النهضة، والذي يعتبر الخطر الأكبر الذي يداهم مصر بعد 5 سنوات من توقيع السيسي بمحض إرادته اتفاق المبادئ الذي يُعقّد موقف الدولة المصرية اليوم أمام مجلس الأمن والدول المراقبة، ويحرمها من سلاح عدم الاعتراف بشرعية السد. هذا الاتفاق منح كذلك أديس أباباً صكاً على بياض لاستكمال إنشاء السد، وهو ما كانت تطمح إليه منذ ما قبل ثورة يناير، فضلاً عن إقراره بحقها السيادي في إدارته، وعدم تضمنه أي جزاء قانوني دولي عليها حال مخالفة الاتفاقات السابق توقيعها في إطار الإدارة المشتركة لمياه النيل، وبصفة خاصة في عامي 1902 و1993. بل تستند إثيوبيا لهذا الاتفاق لتبرر لنفسها وللعالم أن القواعد التي يجب الاتفاق عليها لا يمكن اعتبارها ملزمة بأي حال، لأنها موصوفة في الاتفاق بأنها "استرشادية"، فضلاً عن كونها غير مقتصرة على خطة واحدة يجب اتباعها، فهي بحسب النص "ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد".

 

المساهمون