"الفيدرالية" والبازار السياسي في لبنان

"الفيدرالية" والبازار السياسي في لبنان

30 مايو 2020
+ الخط -
مع تعدّد الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية التي يعانيها لبنان، وجديدها الأزمة الاقتصادية والمالية التي دفعته إلى بدء مفاوضات مصيرية مع صندوق النقد الدولي على برنامج تمويلي يساعده بالخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف به، يبدو أن سوق البازار السياسي في لبنان يشهد تسويقاً لطروحات وأفكار تبدو شاذة في شكلها، لكنها متسقة في إطارها ومضمونها، وتهدف إلى نسف النظام السياسي القائم في لبنان، والمستند إلى وثيقة الوفاق الوطني التي أقرّها اتفاق الطائف عام 1989، وأنهت الحرب الأهلية اللبنانية. ولو تتبعنا هذه الطروحات والدعوات التي حملها هذا البازار في الفترة الأخيرة، لوجدنا أنها تدور في إطارها العام ضمن طرحين اثنين، عنوانهما الأبرز "اللامركزية"، وإن كانت هذه اللامركزية تتراوح ما بين لامركزية إدارية موسّعة ولامركزية مالية تفضي إلى اللامركزية السياسية أي "الفيدرالية". 
بالنسبة للطرح الأول، والذي يؤيده الفريق الشيعي في لبنان وتحديداً حزب الله، ونوعاً ما حركة أمل، وبعض الشخصيات الشيعية، كالشيخ أحمد قبلان نجل رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان، الذي انتقد، قبل أيام، النظام اللبناني القائم على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، معتبراً أن البلد سقط لأن دستوره فاسد، فيدور حول الدعوة إلى نظام سياسي جديد، على قاعدة رفض استمرار صيغة الحكم القائمة على ثنائية رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء التي جاء بها اتفاق الطائف، وطرح صيغ جديدة، يُراد منها الانتقال من المناصفة بين المسلمين والمسيحيين إلى المثالثة بين السنة والشيعة والمسيحيين، مع وجود طروحاتٍ شيعيةٍ أخرى، تدعو إلى المطالبة بالدولة المدنية وإجراء انتخابات نيابية على أساس لبنان دائرة واحدة وإنشاء مجلس للشيوخ.
أما الطرح الثاني، والذي يزيد خطورةً عن الأول، فهو طرح اللامركزية المالية والسياسية الذي 
يسوّقه الفريق المسيحي في لبنان، وتحديداً التيار الوطني الحر برئاسة جبران باسيل، الذي يطالب باللامركزية المالية والإدارية وقيام الدولة المدنية الكاملة، ويسعى من خلال ممارساته إلى ترسيخها، وكذلك الأمين العام لما يسمّى "المؤتمر الدائم للفيدرالية" ألفريد رياشي، الذي يعتبر أن اتفاق الطائف قد انتهى، والحل سيكون عبر تبنّي النظام الفيدرالي الاتحادي.
يبدو، من خلال هذه الطروحات أن ما كان يتم تداوله في السر، وما كان يخطط له في الغرف المظلمة منذ سنوات، قد بدأ يظهر إلى العلن في سوق البازار السياسي اللبناني، على الرغم مما تشكله هذه الطروحات من أخطار قد تهدّد وحدة لبنان وتماسكه الجغرافي، فالطرحان يتسمان بحساسية عالية وكبيرة من باقي المكونات اللبنانية، وخصوصاً من المكون السني، فطرح اللامركزية الموسعة من المكون الشيعي يدفع علناً باتجاه تغيير النظام، بعد أن بات هذا النظام، حسب تصور هذا الفريق، أضيق من فائض قوته ومداه الإقليمي، وهو ما يعد بمثابة دعوة إلى التقسيم بشكلٍ غير مباشر، يحاول هذا الفريق فرضه فعلياً من خلال منظومته العسكرية والأمنية والمالية والتربوية والاقتصادية، وحتى السياسية، في حين أن طرح "الفيدرالية" الذي يسوّقه التيار الوطني الحر، يشكّل خطورةً كبيرةً على لبنان، كونه يعبّر في الأساس عن اتجاه تقسيمي كان سائداً ومطروحاً في فتراتٍ معينةٍ من تاريخ لبنان المعاصر، ويذكّر بأيام الحرب الأهلية اللبنانية التي أنهاها اتفاق الطائف باتفاق وثيقة الوفاق الوطني التي نصّت على توزيع للسلطة والصلاحيات والمناصب، وعلى المستويات كافة في الدولة بين مواقع الحكم في النظام السياسي الطائفي اللبناني، تحت مسمّى "الديمقراطية التوافقية".
لا يمكن أن تكون هذه الطروحات التي يسوّقها بعض الأطراف في لبنان هي الحل للأزمات التي تعصف به، كونها تُشكّل في المقام الأول مشروع حرب مستقبلية تقسيمية للبنان لأسباب متعدّدة، سياسية واقتصادية وثقافية وجغرافية ودينية، فمن جهة لبنان، كدولة صغيرة تتعدد فيها الطوائف والمذاهب، وتتداخل مناطقها بعضها مع بعض، بحيث يتمترس كل فريق وراء مصالح طائفته ومذهبه ومنطقته، ومن جهة أخرى تتفاوت مناطقها اقتصادياً، الأمر الذي سيفرض حياة اجتماعية غير متوازنة وحروباً جديدة هو في غنى عنها.
في المحصلة، يمكن القول إن الطروحات التي يتم تسويقها في سوق البازار السياسي اللبناني، 
وتتمحور حول اللامركزية الموسعة و"الفيدرالية" شاذة ومرفوضة، كونها ترسّخ الطائفية والانقسام، وتعتبر بمثابة نفق مظلم، لا يبدو أن لبنان مهيأ للولوج فيه، بسبب التعدّدية الدينية والمذهبية في المجتمع، وكذلك بسبب التباينات الثقافية والاجتماعية بين طوائفه، فتطبيق هذه الطروحات يحتاج إلى الحس المدني الفيدرالي الغائب في الحالة اللبنانية. لذا يبقى طرح اللامركزية الإدارية، التي أقرّها اتفاق الطائف لعام 1989، مع بنود أخرى عديدة ما زالت تنتظر التنفيذ، ووضعت خطوطاً حمراً لمنع الأفكار التقسيمية، الخيار الأنسب للوضع اللبناني، بحيث يسمح لكل قضاء لبناني بجباية الضرائب لتحقيق نموه الداخلي وتطوير بنيته، مع تخصيص جزء من هذه الضرائب لنمو (وتطوير) المناطق الأخرى الأقل حرماناً، والتي لا تقع ضمن نطاقه الإداري.