نبأ وفاة حمدو بري

12 يونيو 2016
+ الخط -

سأحكي لكم، ضمن هذه المساحة، حكايةَ رجلٍ من عامة الناس، اسمُه حمدو بري، توفى، قبل أيام، في مدينتي "معرتمصرين". ولئلا تستعجلوا الحكمَ، أو الاستنتاج؛ أسارع إلى إعلامكم أنه لم يمُتْ ببراميل ابن حافظ الأسد، ولا بصواريخ فلاديمير بوتين، ولم يقتله جنودُ حسن نصر الله، ولا حتى الإرهابيون الإيرانيون والأفغان والعراقيون الذين جاءوا إلى سورية لتصفية حساباتهم معنا، باعتبار أن أجدادَ أجدادِ أجدادِنا أيّدوا يزيداً الذي قتلَ (حُسَيْنَهم) قبل أكثر من ألف سنة،... بل مات ميتةً طبيعيةً، عن ثمانين عاماً.

تخلفتُ عن السير في جنازة صديقي حمدو بري، لأنني منفي من بلدي، باتفاق غير معلن بين نظام وريث حافظ الأسد من جهة وحرامية المازوت والمجاهدين الذين جاءوا لنصرة المسلمين ضد الكفار والنصيرية والمجوس، واكتشفوا أنني علماني كلب من جهة أخرى.

لم أتمكّن، وأنا في المنفى، من تقدير عدد المشيّعين الذين رافقوا حمدو بري إلى المقبرة الكائنة على طريق قرية رامحمدان، ولكنني أحسب أن العدد قليلٌ، انسجاماً مع المثل البلدي القائل إن حادثيْن لا يدري بهما أحد: فُسُوقُ الغني، وموت الفقير.

كثيرون من أهل معرتمصرين نفسها لا يعرفون أبا بري، على الرغم من أنه أمضى السنوات الثمانين التي عاشها بينهم. ربما لأنهم لم يقتربوا منه، بما ‏‏يكفي ليعرفوه.. ولماذا يقتربون منه؟ إنه شخصٌ قليل الجاذبية، بل إنه، بمعنى ‏‏ما، انطوائي، يمشي في ظلّ الجدار ذاهباً إلى المسجد، وهناك يجلس في ظل ‏‏عمودٍ، أو حائط، وحينما يخرج الناس يخرج هو، منزوياً أيضاً، حتى يصل إلى ‏‏البيت.   ‏

لم يكن أبو بري فقيراً، لكنه كان يتّخذ من العصافير قدوةً فيعيش حياته يوماً بيوم، ولا يمكن له أن يتخيل كيف يكنزُ الناسُ أموالهم، ليصبحوا أغنياء، ويتركوا أقربَ الناس إليهم محرومين من ضروريات الحياة.

اشتغل أبو بري، في مطلع شبابه، بإكساء جدران البيوت بالإسمنت، المهنة التي يسميها أهل بلدنا (الزريقة)، وكان معلماً كبيراً في عمله، إلى درجة أنه يحصل على سعر إكساء المتر المربع الواحد بما يزيد على الأسعار التي يتقاضاها باقي (المُزَرِّقين).. ومن الأمور الطريفة أنه كان يقبل أي ولدٍ يرسله أهلُه لتعلم المهنة عنده، ويعطيه أجراً أسبوعياً، حتى ولو كان غير لازم له، وكان يقول: لا يجوز أن نُخجل الناس، أو نكسر خاطرهم. 

وكان يشتغل على إنفاق ما تدرّه عليه مهنته بطرقٍ شتى، منها دعوة معارفه، على نحوٍ شبه يومي، لمشاركته الطعام والفواكه والحلوى.. ثم ينطلق في يوم الجمعة، ليوزّع الصدقات، سراً، إضافة إلى وليمةٍ أسبوعية، قوامها اللحم المشوي لمجموعة من الدراويش والمجانين، فكان يُطعمهم بطريقة البوفيه المفتوحة، أي أن من حق الدرويش، أو المجنون، أن يأكل حتى يشبع، وهؤلاء لا يشبعون بسهولةٍ كما تعلمون.   

كان مرّة يقلي لنا، نحن ضيوفه، سمكاً من النوع الغالي. جاءت قطةٌ وماءت، فناولها فرخ سمكٍ مشوياً، سرعان ما حملته وابتعدت، وهي في قمة الحبور. احتج بعضنا فقال: يا الله يا الله.. خطية، حيوانة. (القصد: من حقها أن تأكل)..

لا أدري في أي مرحلةٍ من عمر حمدو بري توقف عن العمل في "الزريقة". وأتخيل أنه باع الأدوات، وصرف ثمنها في وقت قياسي، وتحول إلى إنسان فقير، أو، بالأصح: مستور الحال.

في بداية الثورة ضد حكم ابن حافظ الأسد، شاهد حمدو بري أول مظاهرةٍ تتألف من حوالي عشرين شاباً من الشجعان، فانضم إليهم من دون أن يتردّد. وفيما بعد، كان (زبوناً مداوماً) في كل المظاهرات التي خرجت لإسقاط حكم هذا المجرم.

عندما شاركتُ أول مرة في مظاهرات معرتمصرين، رآني أبو بري، فسرّ لاكتشافه أنني مع الثورة، واقترب مني، وقال لي:

- أهلين أستاذ. يا تُرى، مطول هذا المجرم حتى يسقط؟!      

 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...