خطاب المنتصر حينما تسنده الوقاحة اللازمة

26 سبتمبر 2024

(مروان قصاب باشي)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

عوّدَنا السيد إبراهيم عيسى (شدّ الله من متانة بنيانه وزاده بسطة) دائماً، وأبداً، ذلك الخطابَ الممجوج، خطاب مُلاينة المنتصر ودغدغة ما تحت إبطيه بعد كلّ نصر يحرزه، وهو على دراية تامّة بعدم لياقة هذا الخطاب أبداً، وخصوصاً حينما يصبح المواطن بلا حولٍ ولا قوّة، وفي أيّامٍ سوداءَ وانهزامية.

خطاب يحمل من المنطق المشكوك في مدى منطقيته كمّاً لا يُستهان من الاستعباط والتشفّي في المهزوم عسكرياً أو أيديولوجياً، وهو يعرف بالطبع تمام المعرفة أنّ العالم كلّه يدافع عن "إسرائيل"، حتّى وإن مُسَّ لها جناحُ بعوضةٍ، ولكنّ الرجل بالطبع يدلى بدلوه، ويأكل من الطبق نفسه، ومن المنطق نفسه وكلمات التشفّي، هو دائماً ضدّ الضعيف، حتّى إن أمسك نبلةً أو حجراً. دائماً هو حُجَّة عالية الصوت والسند والنفير لأهل الغلَبة، والضعاف دائماً عنده السبب في ما حدث لهم، وعليهم أن يُنصتوا إلى العقل دائماً، ولا يُلزِم القويَّ بالعقل أبداً، لأنّ تلك الشيمة تُعلّم الضعفاء أن يكونوا غيرَ مُهذَّبين، أما كفاهم أنّهم ضعفاء من الأصل؟! ... هذا للأسف مجمل خطابه، الذي ينفخ فيه منذ سنوات بنغمات مختلفة، وفي كلّ حدث.

لا يشبع عيسى من هذا العلَف الفكري أبداً، علَف انتصاراته على خصومه الضعفاء، وعلَف طبوله التي تدقّ مساءً في القنوات الفضائية، التي يتنقل إليها بسهولة وبيسر، فالرجل دائماً يرحل من قناة إلى قناة بقربة مياهه وبسهامه وبتروسه وبطلقاته التي يدافع بها عن محراب السلطة الحامية هنا وهناك، حتّى إن طال موت أهل غزّة آلافاً مؤلّفة، أو حتّى فقراء قفزوا إلى المراكب في البحر بحثاً عن لقمة عيش، فلا يكشّ الرجل، ولا تلين له عريكةٌ، وكأنّه المُكلَّفُ الزحفَ ناحيةَ هذه القوى مُدافعاً ومُنافحاً ومُحارباً بكامل صحّته وعروقه وأوداجه، وذخيرته الكلامية شبه المحفوظة للأسف منذ سنوات.

كان من الأولى بإبراهيم عيسى أن يترك هذا العلَف الأيديولوجي المنتصر لقادة "إسرائيل" العسكريين على الأقلّ، فهم الأَوْلى بذلك، ولكنّ الرجل تعوَّد صيدَ مثل ذلك الصيد السهل بالكلمات واللكمات والعبارات الرنّانة، يملأ بها شباكه خلال عقدٍ وأكثر، سواء في قناة الحرّة أو "تكويناته" المختلفة، أو المحتملة، وفقاً لكمّية المياه التي في قربته، وعدد السهام والنبال التي يحملها خلف ظهره، أو مزاج صاحب المحلّ.

واضح أنّ لقمةَ العيش المغموسة بخطاب الفظاظة، وثقل الظلّ، انتقلت أخيراً بسهولة وبيسر إلى خطاب الدم والتشفّي فيه، رغم أنّها دماء عربية، خطاب إعلامي مُؤجَّر ومسلَّط بواسطة لسان عربي، وبإعداد عقول عربية ليلاً ونهاراً، يكتفي بعضهم أحياناً بالغمز تارةً واللمز تارةً، إلّا أنّ إبراهيم عيسي يجاهر بأطروحاته الفكرية نافخاً عروقه أمام الكاميرات، وكأنّه لا يتحدّث في دماء أكثر من أربعين ألف وزيادة من أهل غزّة، وكأنّه يتكلّم عن الفنّ ومحمود شكوكو و"تياتروهات" روض الفرج، أو السيناريو الذي يكتبه لرمضان بعد القادم عن بحور الدماء التي جرت أنهاراً ما بين الطالبيّين وخصومهم، وكأنّ الدماء صارت تجارةً رخيصةً، والكسب من خلالها لا يتطلّب إلا سماكة الجلد والنطاعة والاستهبال ومحاولة التفسير بأيّ منهج.

كان يجب على من يقرأ الكتب على الأقلّ (وليس على المثقف أو كاتب القصص والروايات ومفسّر شخصيتَي الفاروق وأبي بكر) أن يكون همّه المعرفة والتدقيق فيها، وليس استغلال الأحداث طريقاً سهلة وممهَّدة للسياسي كي ينال البركة، أن يعبّد الطريق للعقول القادمة، وليس منظّراً للآلة العسكرية بحكم غَلَبتها، ومعروف أنّ أغلب التاريخ مُزوَّر لصالح الأقوياء وأصحاب الشركات والأسهم الرابحة الآن، فهل تحتاج الآلة العسكرية الإسرائيلية العالمية إلى فِكَرِ إبراهيم عيسى وشروحاته ونبالته الفكرية في مقابل أجر. هل الظهور في الوقت الخطأ يُعَدُّ من الشهوات التي لا يجد صاحبها طريقاً إلى الجمهور، خصوصاً لو كانت الكاميرات الناقلة هناك مصوَّبةً على شحم ولحم هذا الباحث عن ذلك الظهور، فما بالك لو كان يقبض الثمن من بعد ذلك سخياً!

حالة تفشّت في إعلامنا العربي، وتحتاج إلى علاج علماء النفس أيضاً وجهودهم، قبل أن يتلبّسوا لباسَ السلطة نفسها، قولاً وعملاً، وأسلحةً أيضاً، وهذا قد يحدث، وعلّه قد حدث، فقد رأيت شاعرةً باللباس العسكري، إلّا أنّ الوضع المُضحِك ساعتها لم يوصلني إلى ما وصلت إليه الآن، وخصوصاً بعدما زادت الفظاظة على أيّ حدّ، بل صارت خانقةً، حتّى للناس البسيطة التي تسعى وراء أرزاقها.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري