بيلاروسيا... خاصرة أوكرانيا وروسيا الضعيفة

31 اغسطس 2024
+ الخط -

لا يُمكن لأحد أن يرغب في الحلول مكان بيلاروسيا ورئيسها ألكسندر لوكاشينكو حالياً. أضحت البلاد خاصرةً ضعيفةً لروسيا وأوكرانيا معاً، بعد بدء توغّل الجيش الأوكراني في مقاطعة كورسك الروسية في 6 أغسطس/ آب الحالي. بالنسبة إلى موسكو، السيطرة الميدانية على مينسك ضرورية، لردع التوغّل الأوكراني في الأراضي الروسية، ولمنعه من التمدّد في الشمال الغربي بما يُغلِق طريق روسيا ـ بيلاروسيا. وبالنسبة لكييف، الأمر هو عكس الرغبات الروسية. وسط الجيشين المتقاتلين، بدا موقف البيلاروسيين مُربَكاً، فلا هم قادرون على التحرّر من صفة "الخاصرة الضعيفة"، ولا في استطاعتهم التحوّل قوّةَ ردعٍ تمنع الروس والأوكرانيين من التحرّك تجاهها. بيلاروسيا تبقى أضعف أطراف دول المثلّث السلافي الشرقي، وعاجزةً عن التحرّر منهما بحكم الجغرافيا والتاريخ والمُشترَكات، من عادات وتقاليد.

وبالإضافة إلى ذلك، ابتعاد بيلاروسيا، بشكل أو بآخر، عن روسيا، يعني عزل جيب كالينينغراد الروسي، المحاذي للأراضي البيلاروسية، عن البرّ الأمّ، ما يجعله فريسةً سهلةً لمختلف دول الجناح الشرقي من حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وبولندا على وجه الخصوص. وروسيا التي تئنّ أمام توغّل، برتبة غزو، أوكراني لأراضيها، لن تتمكّن من نجدة كالينينغراد بهذه السهولة. ما الذي يبقى أمام لوكاشينكو لفعله هنا؟... ليس أكثر من محاولة طرح نفسه جهةً موثوقاً بها لإدارة مفاوضات روسية ـ أوكرانية، كما فعل خلال استضافته مفاوضات مماثلة في مدينة غوميل، في شتاء عام 2022 وربيعه، بعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا بأسابيع قليلة. مع ذلك، مثل هذا الخيار مُستبعَد في الوقت الحالي. لا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يريد التفاوض من دون تسليم أوكرانيا بسيطرة روسيا على زابوريجيا ودونيتسك ولوغانسك وخيرسون وشبه جزيرة القرم، ولا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي راغبٌ بالتخلّي عن تلك الأراضي. كما أنّ انخراط دولٍ عدّة، بدرجات متفاوتة، في محاولة تزخيم المفاوضات، انطلاقاً من تبادل الأسرى، يجعل من حظوظ لوكاشينكو ضعيفةً لإدارة حوار مماثل.

وبذلك، فكرة بيلاروسيا بالتحوّل طرفاً قوياً عسكرياً لمنع روسيا وأوكرانيا من التفكير في استغلال نقاط ضعفها غير واقعية حالياً. فات القطار بيلاروسيا في موضوع تسليح الجيش وزيادة عديده وتفعيل عتاده، وفي التحوّل طرفاً محايداً قوياً بين البلدين المُتحاربَين، وفي الربط المتوازن بين المعسكر الغربي وروسيا، وفي تأديتها دوراً لم تنجح المجر في فعله، لاعتبارات جيوسياسية بالنسبة إلى بودابست. وفي مثل هذه الحالة، لم يعد أمام مينسك سوى فترة قصيرة في عمر التاريخ، قبل الانزلاق إلى حالة عنفية، تدفعها إلى الاصطفاف إلى جانب موسكو أو كييف. الخياران كلاهما سيئ ميدانياً، ما لم يقرّر مثلاً لوكاشينكو التنحّي قبل الانتخابات الرئاسية المُقرَّرة في وقت لم يُحدَّد من العام المُقبل.

يُظهر المأزق البيلاروسي طغيان منطق الجغرافيا السياسية على التحالفات والمبادئ الدولية كلّها، خصوصاً لدى دولةٍ عاجزةٍ عن اختيار حليفٍ موثوقٍ به. الشعارات المُمجِّدة للعلاقة الروسية ـ البيلاروسية بدت بعيدةً خلال صدام الطرفَين بسبب كلفة الغاز الروسي المُورَّد إلى مينسك، ووصول عناصر من "فاغنر" عشيةَ رئاسيات 2020 في بيلاروسيا، ما أثار غضب لوكاشينكو. المأزق أكبر بالنسبة إلى لوكاشينكو، الذي كثّف أخيراً إطلالاته الإعلامية في بلاده، متطرّقاً إلى الحرب الروسية على أوكرانيا. تحدّث لوكاشينكو عن خشيته من اندلاع حرب عالمية ثالثة، رغم تشديده على علاقته مع روسيا، لكنّ سمةَ عدم الارتياح تكثّفت في نظراته وسلوكه. ابتعد عن التلويح باستخدام أسلحة نووية تكتيكية، بعد ازدياد التهديدات من "حادث ما" قد يُصيب محطَّةَ زابوريجيا النووية الأوكرانية أو محطَّةَ كورسك النووية الروسية. المعضلة هنا أنّ بيلاروسيا باشرت سعياً فاشلاً بمطاردة الوقت، قبل السقوط في المحظور الميداني في الفترة المُقبلة، كقدر كلّ دولة صغيرة يتصارع جبابرةٌ في جوارها.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".