مرايا النزعة القومية: رجعية في ألمانيا وتقدمية في اسكتلندا

مرايا النزعة القومية: رجعية في ألمانيا وتقدمية في اسكتلندا

25 فبراير 2021
عمل لـ برون نوري
+ الخط -

باستثناء اليمين الصاعد حديثاً، ليس ثمة، في ألمانيا، تفاخُر علنيّ بالقومية الألمانية بين النخب السياسية أو الأفراد. القومية في هذا البلد إشارةٌ لنزعة متوقّعة إلى اليمين. بعد الحرب العالمية الثانية، تعرّضت ألمانيا إلى عملية "نَزْع قوميّة" جذرية، على صعيد اللغة السياسية والتعليم والمؤسسات الدستوريّة، وذلكَ في سياق القطيعة السياسية والنفسيّة مع إرث الرايخ. لا أعلام للمباهاة على شرفات المنازل، ولا غناءَ للنشيد الوطني في المدارس، ولا قصائد تبجيل ومديح في المناهج، ولا دقائق صمت على الشهداء.الحساسيّة تجاه الأمر عاليةٌ لدرجة أنَّ البعض يشعرون بالضيق حتّى من مشهد الأعلام الألمانية والكتل البشريّة المتراصّة عندما يشاهدون جماهير كرة القدم.

ما يخيف الليبراليين واليساريين واليسار الليبرالي والحركات النسوية وحركات الجندر، وكذلك الجماعات الجديدة التي لا توجد أيّ تسمية لها حتى الآن، هما: الحشد وأعلام الوطن. باختصار: القوميّة في ألمانيا نكوصٌ إلى الرجعية. والحال أن ثمَّة شيئاً فريداً يحصل في أوروبا الغربية اليوم. إذ تعيش اسكتلندا ظاهرةً سياسية متمثّلة باتخاذ القومية والنزعة الانفصاليَّة موقعاً ليس باليميني بشكل أساسي، أو بالرجعي، بل بالتقدمي.

فبعد أنْ قرّرت الدولة التي استعمرت ثلث العالم في يومٍ من الأيام، أن تتقلّص إلى حدودها القوميّة، بدأت ملامح التفكّك تظهر على المملكة المتحدة. الحكومة الاسكتلندية تنوي اليوم الانفصال في استفتاء جديد، ينقذها من تداعيات البريكست. قبل حفلة البريكست، لما كانت بريطانيا عضواً في الاتحاد الأوروبي، صوّتت غالبية الاسكتلنديين في عام 2014 لصالح البقاء في كيان المملكة. إلا أنّ الصحف التي تقيس المزاج العام، هذه الأيام، تقول بأنّ أكثر من نصف الاسكتلنديين، على الأقل، يؤيّدون الانفصال!

الأعلام الوطنيَّة ترفرف في إدنبرة. في الشوارع: العائلات، والرجال الذين يرتدون التنانير القصيرة، والشباب الذين يحملون الأعلام الأوروبية، وكبار السن، والحركات النسوية وجماعات الـLGBT والمثقفون والفنانون والأكاديميون، بل وحتّى الشباب الذين لا يهتمّون بالسياسة ولكنهم مرعوبون من فقدان خاصيّة التنقل بين حدود أوروبا. المشهد غريب، ومن وجهة نظر ألمانية: مخيف.

تشابهٌ بين القومية الاسكتلندية وتلك العربية الفلسطينية والكردية

في كتابها الصادر عام 2016 بعنوان "الكوزموبوليتية من دون أوهام"، تقول الكاتبة التركية - الأميركية سيلا بن حبيب، بأنّ القومية ليست موضوع النقاش الأساسي، بل التغيُّر الذي أصاب مفهوم السيادة عبر القرون الماضيّة. إذْ إنّ الدول الأوروبيّة اتفقت في معاهدة سلام ويستفاليا عام 1648 على صيغة من التجاور، بحيث تُخصَّص لكل دولة سيادة مطلقة، داخل جغرافيا قومية - مكانية، مفصولة عن الخارج بحدودٍ صارمة. ولم يفرض تجاور دول ويستفاليا أيّ تأثر إيديولوجي أو تشابه سياسي بينها. كلّ دولة تختار نظام الحقوق والواجبات السياسية الذي يناسبها. أي أنّ الحق مرتبطٌ بالمكان ويتغيّر بتغيره.

"دولة ويستفاليا"، كما تسمّيها بن حبيب، بدأت تتصدّع إثر التغيّرات السياسية والاجتماعية الكبرى، كصعود الإمبراطوريات وبدء الاستعمار وحركات الهجرة. أمّا النقطة التي أفاضت الكأس، فهي التحوُّل الأوروبي الشامل إلى نمط الإنتاج الرأسمالي. تحوُّل العالمِ إلى سوقٍ كبير هو عاملٌ هزّ عرش السيادة المطلقة. لم تعد الدولة المنتج الأكبر للسلع، وصارت الشركات الكبرى والنظم المالية العابرة للحدود تتحكّم حتّى بقوانين العمل. في بدايات القرن العشرين، استعرت أزمة دولة ويستفاليا في حربَين عالميتين حرقتا الأخضر واليابس، لتظهر الدولة ذات "السيادة التعاونية" (Kooperative Souveränität)، كما نراها الآن في الاتحاد الأوروبي. صارت السيادة التعاونية أمراً واقعاً، خصوصاً بعد ظهور أزمات من المستحيل لسيادة ويستفاليا أن تقدم أجوبة لها، وتتطلب حتماً تعاوناً مشتركاً عابراً للحدود، كأزمات المناخ والأوبئة والهجرة.

في سيادة ويستفاليا كان الحقُّ لصيقاً بالمكان، وفي السيادة التعاونية أُذيبَت الحدود القومية، وانفصل الحقّ عن المكان، وبدأت تتشكّل بوادر مفاهيم عالمية حول حقوق الإنسان. وهذا بالضبط ما يفسّر النزعة الاسكتلندية الانفصاليّة الحالية. الانفصال عن بريطانيا من أجل الالتحام بأوروبا؛ الحسّ القومي كطريقٍ إلى السيادة التعاونية. هكذا يبرز التناقضُ بين إرادتين قوميّتين؛ الأولى تقدمية وكوزموبوليتيّة، والثانية انعزالية. ثمَّة تشابهٌ بين هذه النزعة الاسكتلندية وكلّ من النزعة القومية العربية الفلسطينية (وليس الحديث هنا، بالطبع، عن "البعثين" السوري والعراقي) التي تشكّلت في سياق النضال ضدّ آخِر استعمار في العصر الحديث، والنزعة القومية الكردية التي نمت في أوساط الطبقة الوسطى الكردية، خصوصاً في سورية وتركيا.

ليست القوميّة حالةً رجعية بالضرورة، بل هي تختلف من سياق إلى سياق آخر، وهذا ما يؤكّد مقولة بندكت أندرنسون: فهي ليست إلا "شعوراً متخيّلاً".


* كاتب من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون