لم يكن في حسبان عائلة عامل النظافة الأردني عماد سلامة "أبو بشار" أن وداعهم له قبل الذهاب إلى عمله في 20 إبريل/نيسان الماضي سيكون لقاءهم الأخير مع رب العائلة، رغم أنه كثيرا ما حدثهم عن خوفه من الخروج للعمل وعدم العودة، كما تروي أم بشار زوجة العامل المتوفى، والتي تؤكد أن عماد وزملاءه كانوا يتخوفون من مكان عملهم الخطر، حيث وقع الحادث، والذي يطلق عليه الأردنيون "نزول الموت".
توفي سلامة (52 عاماً) دهسا أثناء عمله في شارع صافوط الذي يربط بين مدينتي صويلح وعين الباشا شمال العاصمة عمان، بينما كان يتولى تنظيف ذلك الشارع المرتبط بكثرة الحوادث القاتلة بشكل يومي، منذ أن عُيّن في بلدية عين الباشا عام 2003، وترك العامل وراءه عائلة مكونة من الزوجة وثلاثة أبناء ما زالوا على مقاعد الدراسة، ويعيشون حالة من الصدمة عقب وفاة والدهم الذي لم يستطيعوا إلقاء نظرة الوداع عليه، لشدة ما خلفه الحادث من تشوهات، بحسب والدتهم.
ولم يثر الحادث اهتماما حتى نعى ملك الأردن العامل المتوفى في تغريدة على حسابه الرسمي على موقع تويتر في 21 إبريل/نيسان الماضي قائلا: "رحم الله عامل الوطن عماد سلامة الذي توفي نتيجة حادث سير غير مسؤول.. حماية أبنائنا وبناتنا الذين يصلون الليل بالنهار خدمة للوطن واجب مقدس، ولا يجوز التهاون في احترام وتطبيق القوانين فأرواح ودماء الأردنيين عزيزة غالية".
قبل ثلاث سنوات، واجه عامل النظافة في أمانة عمان العشريني يوسف سعيد، (اسم مستعار بناء على طلبه)، ما حدث لعماد، أثناء قيامه بعمله في شارع الملك عبدالله الثاني بالعاصمة، عندما دهسته مركبة فجرا، وتسببت الحادثة ببتر قدميه، ليمسي يوسف عاجزا عن الحركة والعمل عقب شهرين فقط من زفافه.
"أنا متعطل الآن"، يقول يوسف بمرارة، بعد ما أصبح أباً لطفلين يؤمن احتياجاتهما الأساسية وإيجار المنزل من راتب بدل التعطل الذي يتقاضاه من المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي، ورغم ضيق الحال، لم يتمكن يوسف من البحث عن عمل آخر، بعد أن شلّ الحادث حركته.
هذه الحوادث التي يتعرض إليها عمال النظافة التابعون لأمانة عمان الكبرى أو للبلديات في الأردن يعتبرها المتحدث باسم مؤسسة الضمان الاجتماعي موسى الصبيحي مؤشرا على ضعف احتياطات السلامة العامة التي يزوّد بها العامل أثناء تأديته عمله، إذ بلغ عدد إصابات العمل المسجلة في أمانة عمان الكبرى بين عمال النظافة 153 إصابة في عام 2018، بينما توفي شخصان نتيجة إصابة عمل، ووصل عدد إصابات العمل المسجلة في بلديات المملكة للعام ذاته 336 إصابة، وثلاث حالات وفيات، بحسب بيانات مؤسسة الضمان الاجتماعي.
ومنذ عام 1981، أقرت منظمة العمل الدولية اتفاقية السلامة والصحة المهنيتين رقم (155)، وتقضي بنودها بتعزيز أعلى درجة من الصحة البدنية والفسيولوجية للعمال، وحمايتهم من المخاطر الناجمة عن العوامل الضارة بالصحة في عملهم، وتدريبهم تدريبا ملائما في مجال السلامة والصحة المهنيتين، لكنّ الأردن، لم يصادق على هذه الاتفاقية رغم أهميتها، ويُرجع مدير المرصد العمالي الأردني أحمد عوض ذلك إلى عدم إدراك المختصين في وزارة العمل الأردنية لأهمية هذه الاتفاقيات في الحفاظ على العنصر البشري، إلى جانب خضوعهم لقطاع رأس المال والأعمال الذي يجد أن تطوير المعايير في هذا المجال سيكبده نفقات إضافية هو في غنى عنها، معتبراً أن المدخل الأساسي لتحسين مستوى السلامة والصحة المهنية هو المصادقة على اتفاقيات منظمة العمل الدولية في هذا الشأن، وإقرار أدوات إنفاذها، ما يؤدي إلى رفع مستواها وتراجع عدد إصابات ووفيات العمل.
عندما بدأ يوسف عمله في تلك الليلة التي تعرض فيها للدهس، لم توضع أي حواجز أو إشارات تحذيرية على الطريق مكان العمل، وهي مهمة المشرف الذي لم يعر لسلامة وحياة هؤلاء العمال أي اهتمام "فقط أعطى تعليماته وانصرف". كما يقول يوسف.
ووفقا لروايات خمسة عشر عامل نظافة قابلتهم معدّة التحقيق، فإن المهندس المشرف على العمال في الطرقات والأنفاق، لا يعطيهم أي تعليمات بشأن تجنب الأخطار المحتملة، ما يشير إلى أن تجاهل إجراءات السلامة العامة هو المعيار السائد.
ولا تقتصر المخاطر التي يتعرض لها عمال النظافة على الشوارع الرئيسية التي تشهد حركة مرورية كثيفة، إذ يواجه العاملون خطر الموت داخل الأنفاق الكبرى المتركزة في عمان، ورغم وقوع حوادث دهس لعمال النظافة داخل الأنفاق، ما زالت أمانة عمّان الكبرى تزج بهم إلى الخطر جراء إدخالهم لتنظيف الأنفاق بطريقة تقليدية من دون اتخاذ أي إجراءات لضمان سلامتهم أثناء تأدية المهام وفقا لرصد مؤسسة الضمان الاجتماعي لمدى التزام المؤسسات بمعايير السلامة والصحة المهنية، أثناء إعداد التقارير الخاصة بحوادث العمل والأمراض المهنية سنوياً.
"أنزل تحت النفق ويدي على قلبي"، عبر الجملة السابقة يختصر عامل الأمانة علي الداوود (31 عاماً) معاناته، إذ يتركز عمله في الأنفاق منذ عام 2013، موضحا أن دخول النفق لتنظيفه يجعله على احتكاك مباشر مع المركبات التي تدخل مسرعة، ولا يتنبّه السائق لوجود العامل إلا عندما يصبح على مقربة منه في غالب الأحيان، وخاصة في النهار، عندما ينتقل من مكان مشمس إلى ظلمة النفق فتصعب عليه الرؤية، ما يشكل خطورة على حياة العامل.
"المشرف المراقب لما يطلب مني أنزل تحت النفق مجبور أنزل رغم الخوف وإلّا بفقد رزقتي"، يقول علي، مستذكرا حادثة شهدها قبل عامين، عندما تعرض زميل له لحادث دهس أثناء تنظيفه نفق (دوار المشاغل) وسط العاصمة، مخلّفا تشوهات كبيرة في وجهه بسبب شدة الاصطدام.
"هذه الحوادث تبعث فينا القلق، فالخسارة البشرية لا تطاق"، يستدرك العامل معبرا عن مخاوفه التي يتشارك بها جميع عمال النظافة، على حدّ قوله.
ويؤكد أن أداة السلامة الوحيدة التي يزوّد بها العامل هي اللباس ذو اللون العاكس، سواء كان عمله على شارع رئيسي، أو فرعي، أو تحت النفق، ولا تُوضع أي إشارات تحذيرية للسائقين تدعوهم إلى التمهل والانتباه في إشارة إلى وجود عامل نظافة داخل النفق أو بجانب الشارع.
وينطوي القصور في تزويد العاملين باحتياطات السلامة والأمان اللازمة أيضا على ضعف توعية العاملين بأهمية الالتزام بمعايير الصحة والسلامة، فلا يخضع عمال النظافة في البلديات لأي تدريبات للتعامل مع معدات وبيئة عملهم بالطريقة السليمة، إذ تخلو جميع بلديات المملكة من قسم متخصص في السلامة والصحة المهنية، أما أمانة عمان الكبرى المستقلة إداريا وماليا، تعنى دائرة الرقابة الصحية فيها بضمان الالتزام بمتطلبات السلامة العامة للمهن المختلفة في العاصمة، لكنها لا تخضع عمال الوطن لتدريبات كافية ومستمرة. بحسب مسؤول ملف السلامة العامة في أمانة عمان سابقا خالد محادين.
ويرد عمر عربيات، مسؤول التوعية المهنية والدراسات البيئية في أمانة عمان الكبرى، قائلا إن الأمانة تتبع التعليمات المتعارف عليها عالميا للحفاظ على سلامة العامل، وقد تم تعديل لباس عامل الوطن (كما يشار إلى عامل النظافة في الأردن) وتزويده بالعواكس حتى يُرى بوضوح، كما يمنح كل عامل القفازات السميكة لحمايته من الأذى، بالإضافة إلى الكمامات للعاملين في المحطات التحويلية والمكبّات.
أما الأنفاق، فيعطى المراقبون تعليمات بعدم إدخال العامل تحتها أوقات ذروة حركة السير، وفقا لعربيات، وعليهم تنبيه العامل لتكون حركته معاكسة لحركة السير، لأن حركة المركبات تحت النفق غير متوازنة، كما يوضح، مشيرا إلى أن أيام الجمعة يقوم فريق كامل بتنظيف النفق مع إغلاقه وتحويل حركة السير إلى الأعلى.
ومن جهته، يرى محادين أن إدخال عمال تحت الأنفاق لتنظيفها وهي مفتوحة هو بحدّ ذاته مخاطرة كبيرة، ولا بدّ من وضع إشارات تحذيرية خارج النفق تدلل إلى وجود العامل في الداخل حتى لا يفاجأ السائقون بوجوده ويصبح الحادث أمرا واقعا، ثم "تصنف الأضرار أو الوفيات ببساطة على أنها حادث عمل، وهي عبارة لا تتضمن أي خطأ على الأمانة أو البلديات"، كما يقول محادين، مضيفا، أن على أمانة عمان أن تستعيض عن العمال بآليات الكنس التي تمتلكها لاستخدامها في المواقع الخطرة كالأنفاق والشوارع المزدحمة، حفاظاً على سلامة العنصر البشري، إلى جانب جملة من الاحتياطات التي طالب باتباعها قبل إحالته إلى التقاعد من وظيفته في الأمانة، بينما يقول عربيات إن الأمانة تسعى لتجديد أسطولها دوما، وتستخدم الكانسات في بعض المواقع حالياً.
لا تعتبر أدوات السلامة التي يتسلمها العامل كاللباس العاكس والقفازات كافية لحمايته من أخطار متنوعة يواجهها في مهنته، بحسب محادين، فجامع النفايات والعامل في سيارات جمع النفايات، الذين تتمثل مهامهم في تنظيف الشوارع والأرصفة والحدائق والمساحات العامة وجمع القمامة والنفايات من المنازل والمباني والمستشفيات، عرضة لجملة من المخاطر، حيث تنتشر بينهم أمراض العضلات والعظام العلوية والسفلية، وآلام الرأس وأمراض الجهاز التنفسيّ نتيجة استنشاق الروائح الكريهة بشكل مباشر لساعات طويلة، بالإضافة إلى التعامل مع ضاغطات حادة قد تسبب أذى بالغا ليدي العامل، كما حدث لعامل النظافة سمير الدعيسات 50 عاماً (اسم مستعار بناءً على طلبه)، والذي يعمل في الأمانة منذ عام 1996، حين علقت إحدى يديه بين حاوية النفايات والضاغطة أثناء رفعها، ما أدى إلى قطع إصبعه، وإصابة يده بتهتك حاد دخل على إثره المشفى مدة خمسة عشر يوما.
وتكررت الحادثة ذاتها مع خمسة من العمال الذين قابلتهم معدة التحقيق، ممن يعملون على سيارات جمع النفايات، رغم استخدامهم القفازات التي تعطى لهم، لكنها سميكة إلى حدّ تعيق فيه إحساسهم بالأجسام، ما يؤدي إلى تعرض أيديهم لإصابات إن علقت بين فكّي ضاغطة النفايات، بحسب رواياتهم.
وتنص تعليمات حماية العاملين والمؤسسات من مخاطر بيئة العمل الصادرة بمقتضى أحكام المادة (79) من قانون العمل رقم (8) لعام 1996، على أن تكون "معدات الوقاية الشخصية للعاملين قادرة على إزالة وتقليل الخطر أو الضرر إلى الحدّ المأمون المسموح به، وأن تكفل حماية العامل من المخاطر والأضرار وأن تكون من مواد ذات نوعية ومطابقة للمواصفات والمقاييس الفنية المعتمدة، وألا تسبب أي مضايقة للعامل أثناء استخدامها".
وبحسب المادة (3) من التعليمات يجب أن يزود العامل بخوذة خاصة لوقاية الرأس، ويزود العامل الذي يعمل في أعمال تعرض الأيدي للأخطار والأضرار بقفازات مناسبة للوقاية من أخطار المواد التي يتعامل معها، كما جاء في المادة (7) من التعليمات، لكن هناك قصورا واضحا في تطبيق هذه التعليمات من قبل البلديات والأمانة، فلا تشكل الخوذ جزءا من المعدات الأساسية التي يتسلمها العامل، وينتشر عمال النظافة في مواقع عملهم بلا خوذ، بالإضافة إلى خطر السقوط عن سيارة جمع النفايات الذي يهدد العاملين عليها، جراء تشبثهم بالسيارة من الخلف أثناء مسيرها، والنزول عنها لجمع النفايات ثم الالتحاق بها بسرعة أثناء تحركها وفق ما وثقته معدّة التحقيق في خمس جولات ميدانية.
أطلق أمين عمان سابقاً عمر المعاني على عمال النظافة مصطلح "عمال وطن" في عام 2000، تكريماً لعملهم وجهودهم، ودفعاً باتجاه تغيير النظرة السلبية تجاههم، كما اقترنت التسمية بإيقاف تعيين غير الأردنيين في هذه المهنة، وحصرها بأبناء الوطن، بحسب المدير التنفيذي للبيئة في الأمانة محمد الطيطي.
وتصنف مهنة عامل النظافة (عامل الوطن)، وهم العاملون في مجال تنظيف الشوارع وجمع النفايات وكذلك العاملون في مركبات النفايات، كمهنة خطرة وفقاً لجدول المهن الخطرة الملحق بنظام المنافع التأمينية الصادر بموجب قانون الضمان الاجتماعي رقم (1) لسنة 2014.
وتعرّف المهن الخطرة بأنها المهن التي تؤدي إلى الإضرار بصحة الإنسان أو حياة المؤمن عليه، نتيجة تعرضه لعوامل أو ظروف خطرة في بيئة العمل.
ووفقا لإحصائيات وزارة البلديات الأردنية يعمل في هذه المهنة 8 آلاف عامل في كافة بلديات المملكة، بينما تشغل أمانة عمان الكبرى 7250 عامل نظافة، بحسب دائرة الموارد البشرية في الأمانة.
واتجه هؤلاء إلى تأسيس نقابات مستقلة للمطالبة بتحسين أوضاعهم عندما لم يجدوا الاهتمام المطلوب من النقابة العامة للعاملين في البلديات وأمانة عمان، بحسب الناطق الإعلامي لاتحاد النقابات المستقلة للعاملين في بلديات الأردن هاشم أبو لبدة.
ويكشف أبو لبدة أن الحفاظ على السلامة العامة لعمال النظافة كان أول الأهداف التي سعت النقابات المستقلة إلى المطالبة بها في الاعتصامات التي نظمتها العام المنصرم، إذ جرى الاتفاق مع إدارة المجالس المحلية في وزارة البلديات الأردنية على استحداث قسم سلامة عامة على هيكل كل بلدية من بلديات المملكة، وإدراجه في الموازنة المخصصة لعام 2019، على أن يتولى مختصون مسؤوليات الصحة والسلامة، وتشمل هذه المسؤوليات تحديد الظروف والممارسات الخطرة، واستراتيجيات التحكم بها والتخفيف منها، وتطوير ثقافة السلامة لدى العاملين والمشرفين بتنظيم برامج فاعلة، لكنّ ذلك لم يطبق، بحسب أبو لبدة.
في المقابل، يوضح حسين مهيدات، مدير المجالس المحلية في وزارة البلديات، أن الوزارة وافقت على مطلب البلديات باستحداث قسم للسلامة العامة والصحة المهنية، لكنها ما زالت في مرحلة تأهيل المدربين، وتعكف على إعداد دليل للسلامة والصحة المهنية في ضوء معايير منظمة العمل الدولية لتعميمه على جميع البلديات. على حدّ قوله.