إسبانيا 2024: مقاربة عربية لتصدّعات المشهد الثقافي

06 يناير 2025
من مظاهرة في برشلونة تضامناً مع الشعب الفلسطيني، 27 أيلول/ سبتمبر 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- نظمت "مؤسسة سانتاندير" لقاءً في مدريد لمناقشة تأثير الثقافة الاستهلاكية الأمريكية على الهوية الأوروبية، مع التركيز على أزمة الهوية التاريخية في إسبانيا والمكون العربي الإسلامي.
- تناول مؤتمر نظمته منظمات ثقافية وتاريخية النقاش حول الهوية الإسبانية، صعود اليمين المتطرف، سياسات الهجرة، وتأثير حرب غزة، مما أدى إلى انقسام المثقفين الإسبان ودفع رئيس الوزراء للاعتراف بالدولة الفلسطينية.
- أطلق وزير الثقافة الإسباني مبادرة لإنهاء مظاهر الاستعمار في المتاحف، مما أثار جدلاً، بينما يظل حضور الأدب العربي في إسبانيا محدودًا.

يمكن اعتبار اللقاء الذي أقامته "مؤسّسة سانتاندير" في مدريد، في الحادي والعشرين من حزيران/ يونيو، الحدث الأبرز الذي يُمثّل مسار الثقافة الإسبانية خلال عام 2024، حيث اجتمع فيه اثنا عشر مفكّراً في محاولة لتصوُّر مستقبل البشرية في ظلّ نمط الثقافة الاستهلاكي الذي يغزو المجتمعات الأوروبية، والذي تُنتجه الرؤية الأميركية للعالم، حيث يعيش الإنسان الإسباني، والأوروبي عموماً، في أوج تمزّقه، مقيَّداً بثقافة الاستهلاك، ومنقاداً بشكل أعمى وراء ثقافة الإعلام الأيديولوجية والموجّهة، وثقافة التقنية التي تقتلع الإنسان من جذوره وتطيحه في هاوية العبث وعدم اليقين.

هذا اللقاء رافقه، خلال العام المنصرم، صدور العديد من الكتب الفكرية والفلسفية، التي حاول مؤلّفوها البحث عن معنى جديد للفلسفة والحياة الأوروبية، وتقديم أجوبة للأسئلة التي تطرحها التغيّرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تُبدّل وجه العالم، إضافة إلى تحدّيات المجتمع الإسباني الذي ما زال غارقاً في أزمة هويّته التاريخية، التي يشكّل وجود المكوّن العربي الإسلامي فيها إشكالية ما زالت قائمة: هل إسبانيا كاثوليكية أم متعدّدة تُشكّل الأندلس فيها ذروة حضارتها؟

لم يخف هذا النقاش على مدار العام، وربّما ارتبطت عودته لتصدّر المشهد الثقافي، بدرجة أو بأقّل، بصعود قوى اليمين المتطرّف، ليس في إسبانيا وحدها، بل في أوروبا عموماً، وبسياسات الهجرة والتغيّرات الديمغرافية والاقتصادية والثقافية التي تؤثّر في المجتمعات الأوروبية. وقد كان المؤتمر الذي عقدته أكثر من سبعين منظّمة ثقافية وتاريخية بمبادرة من "معهد الدراسات التاريخية" مثالاً على حضور هذا النقاش في المشهد الثقافي الإسباني.

لا يزال حضور الأدب العربي في إسبانيا خجولاً مقارنة بالآداب الأُخرى

ولعلّ هذا النقاش يرتبط أيضاً بالشرخ الذي أحدثته حرب الإبادة الجماعية على غزّة في قلب المشهد الثقافي الإسباني، بين مثقّفين قرّروا عدم الامتثال للماكينة الإعلامية السائدة في الغرب وقول كلمة حقّ دفاعاً عن مبادئهم، حتى إن أدّى ذلك إلى بقائهم في الهامش، وبين مثقّفين غالبيّتهم من اليمين أو اليمين المتطرّف، ساندوا ما ترتكبه "إسرائيل" من جرائم ضدّ الإنسان الفلسطيني وضدّ القيم والمبادئ التي تملأ كتبهم. وقد عبّر عن هذا الموقف الروائي الإسباني أرتورو بيريز ريفيرتي، الذي قال إنّ "الإسرائيليّين، مهما فعلوا، يبقون منّا، ويشاركوننا قيمنا الديمقراطية".

وهذا الشرخ الذي أحدثته حرب الإبادة الجماعية قد تكون تداعياته مرتبطة بسياقات نقاش الهوية الإسبانية والجرح الأندلسي الذي لم يبرأ. وربما هذا ما دفع رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية وإدانة "إسرائيل"، اعتقاداً منه بأنّه يحاول تصحيح الخطأ التاريخي الإسباني المتمثّل بعدم الاعتذار الرسمي عن الجرح الأندلسي.

وفي هذا السياق الثقافي والاجتماعي من المراجعات الذاتية لمفهومات الهوية التاريخية والذاتية الإسبانية وأشكال الاستعمار الفكرية والثقافية والإعلامية الجديدة، لم تكن من باب المصادقة المبادرة الثقافية والفنّية التي طرحها وزير الثقافة إرنست أورتاسون، خلال 2024، حول إنهاء مظاهر الاستعمار في المتاحف الإسبانية. أثارت نيّة الحكومة "مراجعة مجموعات المتاحف الوطنية للتغلّب على إطارها الاستعماري" جدلاً كبيراً في البلاد بين مؤيّد ومعارض. وعلى الرغم من أنّها توفّر الفرصة للنقاش وبناء سرديات جديدة حول مفهوم الهوية الوطنية والمجموعات الفنّية والإثنولوجية، فإنّها عملياً لا ترتبط بالجزئية المتعلّقة بالأندلس، بقدر ارتباطها باستعمار إسبانيا لدول القارّة الأميركية، حيث لا تزال بعض هذه الدول، وعلى رأسها المكسيك، تطالب الحكومة الإسبانية بالاعتذار الرسمي عن التاريخ الاستعماري للإمبراطورية الإسبانية في تلك الدول.

لا تتعلّق هذه المبادرة بإجراءات تعويضية وإعادة القطع الفنّية التي استولت عليها إسبانيا إلى أماكنها الأصلية فحسب، بل إنّها عملية متعدّدة الأوجه، ويجب أن تبدأ بالاعتراف بأنّ هذه المتاحف أو المؤسّسات الثقافية قامت عضوياً على أساس أنّها تابعة للعقلية الاستعمارية، باعتبار أنّها تأسّست ككيانات ساعدت في خلق الخطابات الوطني.

هذه النظرة الإسبانية تجاه تاريخها الاستعماري دفعت العديد من الباحثين والمتخصّصين إلى الغوص في الجانب المظلم من خبايا الاستعمار الإسباني. ولعلّ كتاب "رمل في العيون: ذاكرة وصمت المستعمرات الإسبانية في المغرب والصحراء الغربية"، الذي صدر في صيف العام الماضي للباحثة لورا كاسييس كان من أبرز هذه المراجعات، وقد تناولت فيه الضرر التاريخي الذي لم يُصلَح بعد.

في مقابل هذا، وإذا ما أخذنا بالاعتبار التاريخ المشترك بين العرب وإسبانيا، والإرث الثقافي والحضاري والفنّي والمعماري واللغوي الذي تركه العرب في شبه الجزيرة الإيبيرية، أمكن القول إنّ حضور الأدب العربي في إسبانيا لا يزال خجولاً مقارنةً بالآداب الأوروبية الأُخرى، وهو في مجمله يقتصر على مبادرات فردية يقوم بها بعض المختصّين باللغة العربية والمترجمين منها، وأساتذة الدراسات العربية والإسلامية، إضافة إلى بعض المثقّفين العرب الموجودين في إسبانيا؛ وهي في الغالب مبادرات محدودة تتحرّك في دوائر ضيّقة لا تكاد تُشكّل ثقلاً في المشهد الثقافي الإسباني إلّا في ما ندر.

المفجع المبكي هو أنَّ المال العربي يمنح جوائزاً تسيل اللعاب لمؤسّسات ثقافية إسبانية لم تفعل شيئاً جوهرياً لخدمة الثقافة العربية. ما يزيد من هول المأساة هو التنافس الحاصل بين المؤسّسات العربية نفسها التي صارت تتسابق فيما بينها لمنح المؤسسة الإسبانية أية جائزة، في نوع بدا وكأنّه سباقٌ لشراء الذمم، لدرجة أنَّ هذه المؤسسات الإسبانية صارت تعرف كيف تُمنح هذه الجوائز وتقيم علاقاتها مع المال العربي على هذا الأساس. 

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون