كيف أفسد الترام أهالي القاهرة؟

كيف أفسد الترام أهالي القاهرة؟

02 يونيو 2020
+ الخط -
إذا كنت تستغرب ظاهرة لوم الإنترنت وتحميل الكثيرين له مسئولية انحراف الشباب وتدهور الأخلاق وضياع القيم، فلا أظنك ستستغربها حين تعرف أن ظاهرة ربط الانحراف الأخلاقي بالتكنولوجيا ارتبطت عبر السنوات بكل مستجد يدخل على حياة المجتمع المصري، وأنا هنا لا أتحدث عن اللوم الذي تم توجيهه من قبل لأجهزة استقبال القنوات الفضائية والفيديو والتلفزيون والإذاعة والسينما، بل أتحدث عن اللوم الذي تم توجيهه إلى الترام، منذ أن بدأ سير قطاراته في شوارع العاصمة يوم 12 أغسطس 1896، وهو ما رصده الباحث محمد سيد كيلاني في كتابه الممتع (ترام القاهرة).

يقول محمد سيد كيلاني في مقدمة كتابه: "فلما أنشئ الترام حدثت ثورة هائلة في جميع نواحي الحياة القاهرية، فطاب السهر، وأصبح في متناول الجماهير وبخاصة الشبان الذين كانوا يقضون الليل في الملاهي والمراقص، وبدأت الروابط الأسرية في التفكك، وضعفت رقابة الآباء على الأبناء، كما ساعد وجود الترام على اتساع حركة العمران ونشطت الحركة التجارية ونشأت المحلات الكبرى لتجارة التجزئة في ميدان العتبة الخضراء والجهات المجاورة له وظهرت قيمة الإعلانات التجارية. ولما سهل على الناس الانتقال عظم امتزاجهم، واشتد اختلاطهم، ومن ثم بدأ الرأي العام يتكون ويصبح خطرا على الجهات الحاكمة".

ومع أن شركة الترام وضعت بالاتفاق مع الحكومة المصرية لائحة خاصة لتشغيله تضمن سلوكيات ركابه، وقد أقرها مجلس الشورى وصادق عليها، وكان من أغرب بنودها أن "كل محدث غوغاء أو سكران أو مصاب بعاهة تشمئز منها النفس، يُمنع من ركوب الترام"، إلا أن كثيراً من الصحف والمجلات هاجمت الاختراع الجديد وحملته مسئولية تدهور الأخلاق والقيم، فقالت صحيفة (المنار) في عددها الصادر بتاريخ 26 يوليو 1898 إن الناس يعتقدون أن الترام بوصفه من الأمور المحدثة ومن علامات الساعة ومن خصائص آخر الزمان "قد سهل على غويِّهم ارتكاب الفواحش واجتراح السيئات، وأمسك لسان رشيدهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وهو ما ربطه سيد كيلاني بموجة من التحذيرات أطلقها خطباء المساجد "منذ بدء العصر الترامي"، حيث أخذوا ينذرون الناس باقتراب موعد القيامة، "فعكف كثيرون على هذه الشهوات ليمتعوا أنفسهم قبل أن يدركهم الموت".


لكن إقبال الناس على الشهوات والمنكرات، لم يتوقف حين تأكد لهم أن القيامة لم تقم بعد دخول الترام، ففي عام 1900 كتبت مجلة (الشهامة) تقول عن أخلاق ما بعد الترام: "وانتشر التدخين بين تلاميذ المدارس، ومنهم من يتعاطى الخمر ويقضي الليل في مراقص الأزبكية ومغانيها، مختلطا بالمومسات والراقصات، ثم يذهب في الصباح إلى المدرسة شاحب الوجه، متحدثا إلى إخوانه بما فرط منه في الليل، مفتخرا بما ارتكب من المعاصي، واقترف من الآثام". وفي عام 1904، أي بعد 8 سنوات من دخول الترام وعدم قيام القيامة، كتبت صحيفة (اللواء) في عددها الصادر بتاريخ 4 فبراير تقول: "وقف الخطباء بين الجنة والنار يحذرون من هذه ويوئسون من تلك، حتى ماتت النفوس وانقطع منها الأمل فيما يوصل للسعادة من عمل، وخشيت الحرمان في دنياها مما قنطت به في آخرتها، فاسترسلت في شهواتها خوف الغبن في الصفقتين"، وفي عام 1908 نشرت مجلة (الديك) مقالة تشجب فيها الانحلال الأخلاقي الذي أدخلته التكنولوجيا الترامية قائلة: "وانعدمت سيطرة الأب على ابنه حتى صار لا يجسر على إزهاق عقوقه لو تطرف عن واجباته، أو تأديبه لو أقدم على أمر يغاير الآداب، وضاع نفوذ المعلم على تلميذه، فنشأ الأبناء على غير مذهب آبائهم، والتلامذة على نفوس لم يهذبها الزجر، وتؤدبها سيطرة التربية".

لم يكن كل أعداء الترام من الخائفين على الأخلاق والقيم، فقد كان من بينهم من عارضوا تشغيله لأسباب اقتصادية، داعين إلى الاستغناء عن الكهرباء وتشغيل الخيل التي يقودها "السكان الوطنيون"، وهو التعبير الذي كانت تتداوله الصحف مشيرة إلى أولاد البلد أو أبناء القاهرة، وكان من بين أعداء الترام مواطنون شرفاء وخائفون على أبنائهم، أطلقوا ضده حملة من الشائعات والتشنيعات التي تخيف الناس من ركوبه، وللرد على هؤلاء نشر حسن توفيق الدجوي في عام 1897 "الرسالة العلمية في التراموايه الكهربائية"، والتي قدمها بقوله: "أما بعد فإني أقدم لتلك الأمة المصرية رسالة جمعت كل ما يتعلق بالتراموايه وأجزائه وشروطه وقوانينه واختراعه، مما يحتاج لعلمه كل إنسان، حتى يعلم ما يراه بعينيه، أو يسمع عنه بأذنه، خصوصا في ذلك المشروع الجليل، وليزول من اعتقادات الأمة جانب عظيم من الضلالة، ولتظهر لهم حقيقة العلوم والمعارف، فقد طالما سمعنا من أكثر الناس أن الطبيعة اسم لا يراد به إلا معناه في مذهب الناتوراليست ـ الطبيعيين ـ أي الذين لا يعتقدون في الإله ووجوده، فنزع ذلك الكثير ثقتهم من المدارس، فأضاعوا مستقبل أبنائهم الذين كان ينتظر منهم خدمة الأوطان بما يكتسبون من العلوم الضرورية لتلك الأزمان، والتي يقتصر في تعليمها على المدارس، فمن جهة يسيئون إلى هؤلاء التعساء الذين لا يجدون ما يسدون به رمق الفؤاد، ومن جهة يخونون الإنسانية والمجموعة الوطنية، ويحرمونها من خدمات هؤلاء الأطفال والشبان".

لكن كل هذه الأقاويل والتشنيعات لم تضر بسمعة الترام مثل ما أضرت به الحوادث التي تسبب فيها، والتي يشير محمد سيد كيلاني إلى بعضها قائلاً: "بعد أسبوع واحد من تسيير الترام صدم طفلا فمزق جسمه إربا وقضى عليه في الحال، وقد فزع سكان العاصمة لهذا الحادث، وانتهز بعض الأدباء الفرصة فانهالوا على الترام هجوا وسبا، وقالوا إن عزرائيل يمشي من خلفه متهيئا لقبض الأرواح، وقد أصدر محمود خاطر نشرة خاصة سماها النشرة الكهربائية خصصها لحوادث الترام، وما يجري من مشاجرات بين قاطعي التذاكر والسائقين وبين الجمهور ومما جاء في مركبة الكهرباء:

تمشي وعزرائيل من خلفها
مُشمِّر الأردان للقبض

وقد ظل المحامون مدة طويلة إذا ترافعوا في قضية ضد الشركة لصالح أحد المواطنين، يبدأون مرافعتهم بهذا البيت".

في 25 مارس 1898 نشرت صحيفة (المقطم) قصيدة للشاعر إلياس حنيكاتي تحت عنوان (الترامواي الكهربائي) قال فيها:

إن الترامواي على القاهرة
مصيبة يا قومنا قاهره
فكم قلوب هالها رهبة
وكم نفوس غالها طاهرة
وكم وكم أيد به قطعت
وأرجل أضحت به طائرة
يجري وعزرائيل من خلفه
يمد للقبض يدا غادرة"

لكن أديباً آخر لم يذكر اسمه بل وصف نفسه بأنه "أديب يسكن في الفجالة"، انتبه إلى أهمية الجمع بين مفاسد الترام الأخلاقية ومجازره البشرية فكتب زجلية عصماء في هجاء الترام قال فيها:

دخيلك يا ترامواي الهلاك اشفق بحالنا
كفانا كفانا ما أصابنا من الأجانب
مش كفاية وبغير سبب تقتل وتزهق
الأبرياء في الفجالة آه ولا أنت هايب
روح اقصد الظاهر واهلك فيه شوية
تريحنا ويبقى له في البلوى نايب
والا امشي بالليل فوق صور الجنينة
أهلك البطال وكل طفل سايب
ولا بالنهار حوِّم حول بنك الكريدي
تلتقي النسوان قاعدة تجهر بالمعايب"

بالطبع، لم تنجح كل تلك الحملات والتشنيعات والحوادث في القضاء على الترام، ليتزايد ركابه ورواده وتتوسع خطوطه في أحياء القاهرة، ويصبح الهجوم عليه أمراً مثيراً للسخرية، لينجح الزمن وحده في القضاء عليه، ويصبح قطعة من الزمن الجميل يبكي الناس على فراقها، وتنتقل مسئولية تدهور الأخلاق وضياع القيم من الترام إلى السينما والمسرح ثم إلى الإذاعة وبعدها إلى التلفزيون والفيديو والدش والإنترنت، والحبل على الجرار، وإذا كنت من الذين يظنون أن البشر سيستهلون مواجهة أنفسهم بحقيقة مسئوليتهم عن تدهور أوضاعهم، وسيتوقفون عن إلقاء اللوم على أعداء متوهمين، فأنت ممن قال فيهم الشاعر العربي قولته الشهيرة: "سلم لنا بقى عالتروماي".

...

وختاما مع الكاريكاتير:
في عددها الصادر بتاريخ 9 فبراير سنة 1927 نشرت مجلة (الفكاهة) الصادرة عن دار الهلال هذا الكاريكاتير الذي يصعب نشره الآن في أزهى عصور الحرية:



وفي عددها رقم 17 الصادر بتاريخ يوم 13 أغسطس 1929 نشرت مجلة (مصر الحرة) هذا الكاريكاتير الصالح لكل زمان ومكان:



ومع ذلك، تقتضي الدقة الإشارة إلى أنك لن تجد أحداً الآن لديه بعض الضمير يمكن أن يصف النظام الحاضر بأنه ابن حلال.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.