يونكر ورئاسة المفوضية الأوروبية... تكريس للعزلة البريطانية

26 يونيو 2014
يشكل الاتفاق على يونكر هزيمة دبلوماسية لبريطانيا (getty)
+ الخط -

لم تكن بريطانيا العظمى بحاجة إلى هذه الهزيمة الدبلوماسية الكبرى التي حصدتها وهي تُحاول منع انتخاب رئيس وزراء اللوكسمبورغ السابق جان كلود يونكر، رئيساً للمفوضية الأوروبية، بعدما عجزت عن إقناع أي زعيم أوروبي بعدم التصويت للرجل المعروف تاريخياً بدعوته لتحويل الاتحاد الأوروبي إلى "الولايات الأوروبية المتحدة". وقد نزل رئيس الحكومة البريطانية، دايفيد كاميرون، بكل ثقله، باحثاً عن دعم أوروبي في مشروعه، متهماً يونكر بأنه "من رجال الماضي وأنه من أنصار الفيدرالية الأوروبية"، منتقداً إشراك البرلمان الأوروبي في انتخاب هذا المسؤول، ومُطالباً الاتحاد الأوروبي بإجراء إصلاحات، في الوقت الذي لم يستطع أن يُنظّم هذه الإصلاحات في بلاده، إذ لا يزال الاستفتاء حول بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي من عدمه، مؤجلاً في المملكة (يجب الانتظار حتى سنة 2017).

وإذا كان كاميرون قد رَاهَن في البداية على دعم ألماني ضد يونكر، إذ لم تكن المستشارة أنجيلا ميركل متحمسة لترشيحه، فإنه لم يقرأ الوضع السياسي الداخلي الألماني، جيّداً، ولم ينتبه إلى أنه لا يمكن أن تسمح ميركل بانفجار تحالفها "الناجح" مع الاشتراكيين الألمان، الذين لا يخفون تقاطُعاً في الرؤى مع رفاقهم الأوروبيين، بقيادة يونكر.

وقد أظهر البريطانيون غياباً لـ"الروح الرياضية"، بل وأظهروا نوعاً من "عدم الاحترام" للبرلمان الأوروبي (الذي يمثل حوالى 500 مليون مواطن أوروبي)، الذي أُخِذَ رأيه لأول مرة في تعيين هذه الشخصية "المرموقة"، وهو ما اعتبر نوعاً من الديمقراطية الشعبية، عِلماً أن المواطنين الأوروبيين، الذين كانوا لا يبدون حماسةً في الانتخابات الأوروبية، كانوا يسخرون من ضآلة تأثير البرلمان الأوروبي في صنع قرارات حاسمة يتّخذها القادة السياسيون في غُرَفٍ مغلقة.

وإذا كانت فرنسا، من خلال كثير من ساستها، لا تمانع في انسحاب البريطانيين من الاتحاد الأوروبي، فإن ألمانيا هي من أشدّ المتشبثين ببقاء بريطانيا، بسبب خشيتها من تحالف بين دول اشتراكية، وبسبب رغبتها في استمرار هذا البلد الليبرالي، بما يحقق توزاناً ضرورياً للقارة العجوز. وسيكون "الانتخاب" الذي بات في حكم المؤكد ليونكر، الاجتماعي المسيحي من اللكسمبورغ، إثباتاً على توافُق فريد بين البرلمان الأوروبي وبين مجلس رؤساء الدول والحكومات الأوروبية على مرشح واحد، أي توافُقاً بين نواب الحزب الشعبي الأوروبي والاشتراكيين، والذين يشكلون أغلبية في البرلمان الأوروبي.

وإذا كان اليمين الأوروبي هو الفائز الأكبر في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، فإن ثمة ما يشبه اتفاقاً على التشارك مع الاشتراكيين في إدارة الاتحاد الأوروبي. ومن المنطقي أن يكون زعيم منحدر من اليمين، رئيساً للمفوضية الأوروبية. ولا يمانع الاشتراكيون الأوروبيون، وخصوصاً الإيطاليّين والفرنسيين (يعتبر فرانسوا هولاند الأمر مسألة شخصية في مواجهة البريطانيين، وخصوصاً أن رئيس الحكومة الفرنسية الأسبق، ميشيل روكار طالَبَ، صراحةً، البريطانيين بمغادرة الاتحاد الأوروبي)، في تولّي يونكر منصب رئيس المفوضية الأوروبية. وأمام فشل الاشتراكيين في الانتخابات الأوروبية، لم يبق لهم سوى الاتفاق مع الفائزين على مرشح واحد في مقابل تنازلات، منها إطلاق سياسة "الاقلاع الاقتصادي"، في مقابل الأرثوذكسية والصرامة الاقتصاديتين الألمانية.

وعلى الرغم من غياب مرشح اشتراكي لمنصب رئاسة المفوضية الأوروبية، هو منصب حسّاس ومهم، فإنّ تعيين يونكر يعتبر انتصاراً شخصياً للرئيس فرانسوا هولاند، الذي اقترحه منذ البداية رغم المعارضة البريطانية الشديدة. ولم يكن خافياً على أحد، برودة علاقات فرانسوا هولاند مع رئيس المفوضية السابق البرتغالي جوزيه مانويل باروزو، بسبب ليبراليته المتطرفة ونزوعه الأطلسيّ الأميركي، وسخريته المتكررة من المواقف الفرنسية، وخصوصاً من "الاستثناء الثقافي" الفرنسي.

سيكون انتخاب يونكر تصويتاً مصلحياً وتوافقياً كبيراً يضمن حصول فرنسا وإيطاليا (إذ أظهر فرنسوا هولاند ورئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رنزي حماسة كبيرة في هذا الاستحقاق) على مرونة أكبر في تطبيق قواعد العجز والدين العام، إذ من دون هذه المرونة "لن تشهد أوروبا نمواً اقتصادياً". ولكن، رغم معارضة المستشارة الألمانية ميركل لأي تعديل، فإنّ شركاءها الاشتراكيين في الحكومة، لا يعارضون هذه الصفقة.

وهكذا، سيكون الأوروبيون مرغمين على إنجاز صفقة حقيقية، إذ لا شيء من دون مقابل. كما أنه إذا كانت المستشارة ميركل تصرّ على عدم المساس بميثاق الاستقرار والنمو، فإنه لا شيء مقدساً في الاقتصاد والسياسة، ويعترف الجميع بالحاجة الماسة إلى إطلاق الاستثمارات في خمسة قطاعات تحظى بالأولوية، وهي الطاقة والنقل والرقمي وتكوين الشباب وميدان الصحة.

ستكتشف بريطانيا، من جديد، رغم مسار الاتحاد الأوروبي الطويل والشاقّ، أنها لا تزال جزيرة، وأن الجزيرة لا تستطيع أن تفرض سياستها "الأنانية" والانعزالية على قارة عجوز، متى شاءت! ​