في تمرين لغوي راهن، يواكب معطيات وتطورات ما يجري في بلادنا اليوم، يمكن إيراد التالي، توصيفاً وإقراراً بواقع لا يمكن دحضه ونكرانه:
خرج المواطن من مواطنيته المزعومة، كاسراً قيد النظام الحديدي الذي يكبل وطناً بكامله، مترحلاً ومتنقلاً من منفاه الداخلي/الوطني، إلى المنفى الخارجي. وفي قول آخر: خرج المواطن من عبوديته إلى الحرية، أو بمعنى آخر: خرج المواطن من ثوب حريته الدافئ إلى عراء الصقيع والمنافي، حيث البرودة القاتلة، بل خرج المواطن أو ما يشبهه، من مواطنه إلى بلاد الآخرين مواطناً احتمالياً، بما قد يحوزه من هوية أخرى وجنسية أخرى وجواز سفر آخر، أو باختصار بحيازته حياة أخرى، لم تكتب له منذ الولادة، أو جرى إسباغها عليه، بفعل أي فاعل؛ سوى فاعل الظروف والمعطيات التي حتّمت، وتحتم، كتابة مصائر أخرى له ولذريته من بعده.
لا يبقى للوطن من معنى، طالما مواطنه يفتقد أبسط مقومات المواطنة، حتى باتت هناك أوطان يفتقد فيها من يفترض أنهم مواطنوها لمعنى الوطن، ليصبح المنفى أو "الأوطان البديلة" بمثابة، أو على شكل، الوطن. فكيف يستقيم الوطن وطناً لمن لا يملك حس الانتماء إليه؟ أو يحوز أدنى حقوقه فيه، وكيف يستقيم المواطن مواطناً في أوطان الآخرين؟
ابتلع النظام السائد في بلادنا كل المعاني، واختصرها ويختصرها في ذاته، وفي حس التعالي
والعنجهية والاستعلاء على أبناء الوطن، بما ملك ويملك من قوة السيطرة والسلطة، والجاه الاقتصادي والاجتماعي، والهيمنة الطبقية وسطوة الأيديولوجيا، حتى والوظائفية التي شكلت، وتشكل، دولة السلطة العميقة، أو سلطة الدولة العميقة، تلك التي لا تطفو على السطح، أو هي لا تسمح بأن تطفو على السطح، سوى سطوة السلطة القاهرة والقامعة، تلك التي يراد لها أن تزيف إرادات الناس، وتقولبها على شاكلة ألواحٍ من أحجار الصمت المرمري، حيث "ينتصر" الأمنيون والعسكريون على "مواطنيهم"، محققين للاستبداد السلطوي الحاكم مزيداً من "انتصارات" الاستعباد.
وأخيراً، باتت تلك "الانتصارات" تشتمل على طرائق في الاستبعاد أكثر تنوعاً وتجذراً، وصولاً إلى النفي الطوعي، والهجرات القسرية والمؤلمة لآلاف من أبناء البلاد التي صادرها النظام ونخبته العائلية وفئاته المستفيدة والمليشيات العابرة للحدود، من كل صنف ولون، ومن كل المذاهب والتيارات والفرق التي بات تنازعها حتى على "الدين" أكثر وضوحاً واستيعاباً لمقاتل الفتن، وفتن المقاتل التي لا ترعوي عن توزيع جرائمها ذات اليمين وذات الشمال، معطوفة على قاعدة من أدلجةٍ صارمةٍ وصادمةٍ، تقدّس مسلكيات التوحش، وتمجّد الموت الانتحاري، وتبجّل انتحارات القيم والأخلاق النبيلة للإنسان واندحاراتها.
هكذا من الفتنة المحلية إلى الفتنة الكونية، تحولت الحرب في سورية إلى حرب عليها، وعلى حق المواطن في أن يكون سيداً في وطنه، لا عبداً لدى أسياد النظام وعبيده من أمنيين وعسكريين، عبداً بلا أدنى حق له في أن يكون إنساناً أولاً، وله الحق في أن يحوز حريته الطبيعية والمكتسبة.
فبأي حق يكون الإنسان مواطناً هناك، ولماذا يتحول إلى متسول حقه هنا، ولا يشفع له أن
يكون ابناً لهذا الوطن، بل غريباً، أو الغريب الذي يحتل الغرباء وطنه بإشراك أو إشراف السارقين والنهابين والفاسدين، ومن أدمنوا قمع شعبه، وأدمنوا حاكمية بغير حق قانوني أو دستوري أو منطقي؛ ولا يختلف هنا في بلادنا حكم الأمنيين والعسكر عن الحكم الوراثي أو الكهنوتي، وتلبيس السياسي جبة الفقيه، أو تدليس الفقيه وسرقة السياسة من أصحابها، وتحويلها إلى ملكية خاصة ومزرعة خاصة، يقاربون بينها وبين "مقدس" مزعوم وموهوم، ينسبونه لأنفسهم، كونهم "سلطة عليا"، لا يطاولها حسيب أو رقيب الشعب أو المجالس النيابية، أو أي هيئات ومؤسسات أهلية أو قانونية دستورية.
من هنا، وإذ غاب المواطن، أو حين جرى أو يجري تغييبه، لن يبقى من قيمة للوطن، حتى في نظر من يتزعمون أو يتسيدون سلطة لهم بلا حق، ويحوّلون حق المواطن وحقوق الناس إلى باطل من أباطيل التمرد والثورة، ما استوجب استدعاء التدخلات الأجنبية الخارجية، والغرباء من مليشيات وناس الارتزاق المذهبي، للدفاع عن "سلطة بلا قرار"، استملكت في ليل كل ما طاولته "أيمانها" و"أيسارها" من وطن، أضحى رهينتها وملكيتها الخاصة، فقامت بتوزيع ما ملكت من المغانم على الأقارب والمحاسيب والأزلام، وها هي تقتطع الوطن إقطاعيات لغرباء يدافعون عنه كمن يدافع عن ملكيته الخاصة، لا لهدف سوى هدف الدفاع عمّا ملكت أياديه من وطن مسبي، ضاعفت السلطة الحاكمة من أسباب سبيه ونفي مواطنه إلى المهاجر القريبة والبعيدة.
وفي المقابل، كان هناك من تكفل بإطباق حلقات السبي والنفي في حق مواطنين ومواطنات، طالما اعتبروا سبايا "طبيعيين" لمنطق "الاستملاك الإلهي" الذي تزعمته قوى دينية أو تدينية لنفسها، صاحبة سلطة لا تحد بأي حدود، وتمتد إلى آخر الكون. الوطن والمواطن بالنسبة لها مجرد سلعة بلا قيمة، بل قيمة تضاف إلى رصيد سلطانها وتسلطها الأخرق والوحشي على رقاب الناس.
إنهم يريدون وطناً بلا مواطنين، وسبايا ومسبيين بلا وطن، كون الوطن في عُرف طغاة الاستبداد السلطوي، كما في أعراف العبيد الذين أدمنوا عبوديتهم، ملكية خاصة من حق السلطة أن تتصرف به، وهي المالكة الحصرية له، ولمنطق استملاكه الخاص، حيث لا حق لمواطنيه بأن يكونوا أصحابه أو أصحاب أي حق لا تمنّ عليهم السلطة به، أو تمنحه لهم، "مكرمة" من "مكارمها" التي تغدقها، أو تحجبها عن عبيدها.