نعم .. أنا لست محايدة

17 ابريل 2014
+ الخط -
أنهى زميلي نقاشنا العابر في شأن قضية غير عابرة، بعبارةٍ واحدة. قالها بنفاد صبر، كما بدا لي لحظتها، وكأنها الحقيقة المرّة التي كان يخشى أَن يواجهني بها طوال الوقت، لكنه اضطر لاستخدامها في النهاية، فأطلقها كمن يطلق رصاصة الرحمة، قبل أَن ينسحب من النقاش، ويترك المكان كله. قال: أنتِ أصلاً غير محايدة في أي نقاش سياسي، ودائماً تكونين متحيزة لرأيك.
لا أعرف أي رأي على المرء أن ينحاز إليه، إن لم يكن رأيه؟ ولماذا يحتفظ برأي شخصي، ما دام قد انحاز إلى رأي آخر مثلاً؟ ولماذا أصلا نتبنّى رأياً، وندافع عنه، إن لم نكن منحازين إليه؟
ثم كيف يمكن أن يبقى ذلك المرء محايداً، وهو يناقش قضية سياسيةً وإنسانيةً، واضحة المعالم محددة الأطراف؟ ولماذا عليه أن يكون محايداً في نقاش حول أمر كوّن رأيه فيه، وانتهى الأمر؟
عليّ أن أشير إلى أن القضية التي كنت أناقش زميلي في شأنها هي قضية الثورة السورية، وتداعياتها المستمرة منذ نحو ثلاثة أعوام. أشير إلى ذلك، لأبين لي ولكم أي معنى للحياد، يمكن أن يكون بين القاتل والمقتول، أو بين السارق والمسروق، بين الجلاد والضحية، بين السجان والسجين، بين الطاغية والشعب؟ باختصار؛ كيف يمكن للمرء أن يقف في نقطة المنتصف بين الصح والخطأ، ويجرؤ، بعد ذلك، على القول إنه محايد احتراماً للموضوعية، وتحقيقاً للعدالة؟
في القضايا الكبرى التي تواجه الضمير الإنساني، وتضعه على المحك، لا توجد منطقة وسطى بين الحق والباطل. وعليه، فإن من يقول إنه يقف في تلك المنطقة إنما يقف مع الباطل بلا جدال، وإن لم يعترف لنفسه، أو للآخرين، بذلك. فالساكت عن الحق ليس محايداً، بل مجرد شيطان أخرس، والشيطان الأخرس لا يعني أنه شيطان طيب، أو شيطان عاطل عن العمل، بل هو شيطان محتال، يمارس شيطنته بالسكوت عن الحق، وبادعاء الحياد، وعدم الانحياز إلى طرفٍ من الطرفين، فيساهم في إيهام كثيرين بأن القضية المطروحة هي قضية رأي ملتبسة، وقابلة للنقاش، وتحتمل وجهات النظر كلها، وكأنها قضية للمفاضلة بين قصيدتي العمود والنثر، أو بين التشكيلين، التكعيبي والسوريالي، أو بين السينما الأميركية والسينما الهندية، أو بين المطبخين الإيطالي والهندي، أمثلةً.
لا يا سيدي المحايد. سكوتك وأنت ترى القاتل يقتل ضحيته لا يعني أنك موضوعي ومحايد، بل يعني أنك منحاز تماماً لصالح القاتل، وتبرر له جريمته وتسانده، وإن تم ذلك بلا قصد منك، أو ادعيت أنه بلا قصدٍ منك.
صحيح أن كثيرين، لظروف معينة، لا يودّون، أو لا يستطيعون الانغماس في أمر معين، وهذا من حقهم بالتأكيد، شرط ألا يوهموا الآخرين بأنهم يفعلون ذلك حياداً بين الطرفين، ورغبةً في عدم التحيز إلى أيٍّ منهما. فيفترض ألا يعني تعمدهم عدم إبداء رأيهم في قضيةٍ معينةٍ، لأسباب تخصهم وحدهم، أنهم على الحياد، بل يعني أنهم لا يرغبون في إعلان موقفهم الآن، أو دائماً. وبين هذا وإعلانهم الحياد خيط رفيع جداً في المعنى شكلياً، لكنه قوي ومتين موضوعياً.
والمسألة تكون أصعب وأقسى، بالنسبة للعاملين في الإعلام بكل صوره، فإعلاميون كثيرون يتحرجون من إبداء وجهات نظرهم في الموضوعات المطروحة بين أيديهم، خوفاً من أن يتهموا بالتحيز وعدم الموضوعية في العمل، وكأن المطلوب من الإعلامي، صحفياً أو مقدم برامج، على سبيل المثال، أن يكون دميةً أو ببغاء، أو آلة تسجيل، يردد معلوماته وأسئلته من دون أن يعلق عليها برأيه الشخصي. هذا غير صحيح، فللإعلامي الحق كله في أن يبدي وجهة نظره في أي قضيةٍ مطروحةٍ أمامه. وبالتأكيد، من دون أن يعني ذلك السماح له بتغيير الخبر، أو تزييف المعلومة، أو تغييبهما لمصلحة تعزيز رأيه الخاص، وقناعته الشخصية، فهذا ما لا يملكه كإعلامي، ولا يمكن أن يتسامح به جمهوره، مهما كانت القضية. فحق هذا الجمهور في الخبر مقدس، أما الرأي فليس له، هنا، أن يتدخل فيه، ولا أن يطالب الإعلامي بالوقوف على الحياد في القضية التي يطرحها للنقاش مثلاً. لأن هذا الجمهور لن يكون في استطاعته إنقاذ ذلك "المحايد" من الجحيم الذي أشار إليه، مارتن لوثر كينغ، عندما قال: أَسوأ مكان في الجحيم مخصص للذين يقفون على الحياد في المعارك الأخلاقية الكبرى. 
 
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.