مجزرة العريش: توزيع المسؤوليات قبل الخراب الكبير

31 يناير 2015
يستحيل حسم المعركة في منطقة مثل سيناء(عبد الرحيم خطيب/الأناضول)
+ الخط -
تقدّم المجزرة التي ارتُكبت في العريش المصرية، ليل الخميس، بحق الجيش المصري، فرصة لجميع الأطراف، تحديداً للسلطة الحاكمة، لاستدراك الموقف وللاعتراف بأن الأمور وصلت إلى حافة الخراب الكامل الناتج عن الفشل السلطوي التام، وخصوصاً للإقرار بأن المجزرة، وما سبقها من هجمات دموية وما سيليها، لا بدّ من أن تغيّر من سلوك سياسي معتمَد منذ الإطاحة بمحمد مرسي ومنذ تصنيف فئة واسعة من إسلاميي البلاد وجمهورهم في خانة الإرهاب، والتعاطي معهم على هذا الأساس، وإقصائهم وقتلهم وسجنهم تطبيقاً لذلك التصنيف.

صحيح أن فتح تنظيم "داعش" فرعاً له في مصر، يندرج في خانة التمدد العالمي لـ "الدولة الإسلامية" في المنطقة والعالم، وأن نشاطه في مصر أمر "منطقي" في هذه الظروف بغض النظر عن هوية الحاكم في القاهرة. لكن الصحيح أيضاً هو أن هناك فارقا كبيرا بين أن يكون هناك إجماع وطني حقيقي ضد التنظيمات الظلامية، يجمع الليبراليين والإسلاميين واليساريين والعسكر من جهة، أو من جهة ثانية أن تشعر فئة واسعة من الإسلاميين بأن القمع الممارَس ضدها، متوسِّلاً الجيش والداخلية والقضاء، يبرر أن تأتي فئة ليست منهم، لتستغلّ الظرف والمظلومية، ولتضرب باسمهم الفئة التي يتم استخدامها بالفعل ضدهم، تحديداً القوى الأمنية.

لا حاجة لنقاش طويل حول عدم منطقية الربط الذي تنسجه السلطة الحاكمة بين الإخوان المسلمين وتنظيمات "داعش" وأخواته، من أنصار بيت المقدس وغيرها. لكن المنطق البسيط الذي يتشاركه عدد لا يستهان به من جمهور المصريين الإسلاميين، يفيد بأن الضربات التي تأتي باسم الإسلام، في سيناء خصوصاً، ومناطق أخرى كالإسكندرية وبعض مناطق الصعيد، هو ردّ على ما يتعرضون له هم. الخطير في الموضوع، أن الطرف الآخر، أي قيادة الإخوان المسلمين أو ما تبقى منها في المنفى أو في المخابئ والسجون، تتأخر في التنديد بالهجمات الدموية ضد الجيش، ربما مسايرة لشريحة واسعة من ناسها، حتى ولو كانت هذه القيادات و"النخب" تدرك كل الإدراك، أنه ليس هكذا تُدار السياسة على طريقة النكاية وتصفية الحسابات من جيب البلد، ممثلاً في هذه الأوقات بعناصر الجيش والشرطة المأمورين والمدنيين المستهدفين وفق العدمية المسيِّرة لسلوك التكفيريين: القتل من أجل القتل. وحين تقوم هذه القيادات بإدانة الجرائم، يبقى الكلام فردياً، وممجوجاً بترداد نغمة مؤامراتية عدميّة بدورها، تصل إلى حد اتهام السلطة بتدبير ما يحصل في سيناء لتبرير "إبادة" سكان المناطق الحدودية مع غزة، ولتبرير المزيد من الضرب بيد من حديد للإسلاميين، وهو كلام لا يفعل سوى زيادة الاستقطاب والأزمة وصولاً إلى الكارثة الشاملة التي تلوح ملامحها في الأفق بشكل متسارع جداً.
صحيح أنّ مسارعة الإسلاميين غير الجهاديين، من إخوان مسلمين وسلفيين دعويين، إلى تصدُّر مشهد الرفض الحقيقي، لا الكلامي فقط، للجرائم المرتكبة بحق الجيش والشرطة والمدنيين، لن تفيد على الأرجح في تغيير سلوك السلطة تجاههم، ويصعب أن تكون كافية بالنسبة للرئيس عبد الفتاح السيسي وأركان حكمه وللعائدين من أعمدة النظام المخلوع لإجراء تغيير جذري في السياسة الممارسة ضدهم، لكنها كانت ستساهم جدياً في التخفيف من حدة الاستقطاب العدائي العمودي الذي يسود المجتمع المصري منذ فترة ليس بقصيرة، بين الإسلاميين وأطياف واسعة أخرى ممن يصنفون أنفسهم في خانات الليبراليين أو ببساطة غير الإسلاميين. استقطاب يغذيه النظام ويستفيد منه بقوة في تصفية خصومه بطريقة القضم التدريجي حيناً، وبأسلوب ضرب الجميع ضربة واحدة حيناً آخر.

لكن الكلام عن واجبات الإسلاميين في مثل هذه الظروف الكارثية والدموية، لا يستقيم إلا بعد تقسيم حصص المسؤوليات بشكل عادل. إنّ رفض الاعتراف بأن الجزء الأكبر من المسؤولية عن تدارك الوضع، يقع على السلطة وليس على من تضطهدهم وتلاحقهم، يندرج حصراً في خانة الذهاب نحو المزيد من التحلل والخراب وتقديم الهدايا لـ "داعش" وكل من قد يستخدم لافتة القاعدة العريضة لتنفيذ جرائمه. هل يُعقل أن كل الدروس العسكرية والسياسية التي تلقاها السيسي في الولايات المتحدة وغيرها، لم تُقنعه وأركان سلطته، بأن للقدرة العسكرية حدودا، خصوصاً في مناطق شاسعة ووعرة وصعبة مثل سيناء، حيث تتداخل الصحراء والعشائر والعصابات والفقر والإهمال الحكومي التاريخي... وأن عدداً كبيراً من الظواهر الأمنية الإجرامية حلولها الأساسية تكون في ميدان السياسة، وهو ما ينعكس في العسكر والحملات والحروب، وليس بالعكس؟ الأمثلة البعيدة والقريبة خير دليل، عربياً وعالمياً، وآخرها في فرنسا، بما أنه حين لا يتم إرفاق المعارك العسكرية، بشكل متزامن، بتوافقات وتسويات واتفاقات مبدئية وبكلام سياسي حقيقي، فلن يحصل إلا المزيد من إراقة الدماء، خصوصاً مع تنظيمات مثل داعش يتمنى أفرادها الموت الذي يسمونه شهادةً.
الفرصة سانحة بقوة اليوم أمام عسكر السلطة الحاكمة وساستها، للتصرف كحكّام لكل البلاد، وأن يفتحوا حواراً سريعاً مع من يمثلون، شئنا أم أبينا، شريحة واسعة من الإسلاميين الذي تقتل "داعش" حالياً باسمهم، من دون أن تحظى لا بوكالة منهم ولا بتفويض. أما الركون إلى "علماء السلطة"، فقد أثبت عدم جدواه منذ فترة طويلة، على الرغم مما لا تزال مؤسسة الأزهر تمتلكه من نفوذ غالباً ما يوظف في خدمة النظام، أيُّ نظام.
لن ينظر حتى المعادون جداً لـ "الاخوان"، إلى خطوة إنقاذية ما، من قبل السلطة الحاكمة تجاه الإسلاميين "المعتدلين" في مصر، كاستسلام أو ضعف، بل على العكس، قد يُنظر إليها على اعتبار أنها، حتى ولو جاءت متأخرة، ضرورية للحدّ من الخسائر التي لا يدفع ثمنها عادة سوى الفقراء، لا الوزراء ولا رجال الأعمال ولا النواب أو المقاولين القادرين على السفر والمحاربة بمَن لا طاقة لهم على المغادرة. غير ذلك لن يأتي سوى بمزيد من توسيع "البيئة الحاضنة"، أو على الأقل المبرِّرة لعمليات كتلك التي تضرب يومياً في سيناء، وكأن المصريين لا يدركون أنّ الدور آتٍ للجميع ليكونوا أهدافاً مقبلة لتنظيمات لا تحتمل إلا من يكونون على صورتها ومثالها.
المساهمون