غلو ومناورات سياسية

13 يناير 2015
+ الخط -
هناك مشكلتان لا يمكن القفز عليهما، عندما يتم التطرق لملف الذين يلتحقون بالتنظيمات التي يطلق عليها "السلفية الجهادية"، والتي توفرت لها الظروف الملائمة لتحتل من جديد موقعاً رئيسياً في الصراع الإقليمي والدولي الذي يتخذ من شعار "الحرب على الإرهاب" مدخلاً له.
تتعلق المشكلة الأولى بالتبريرات الدينية والأخلاقية التي تعتمد عليها هذه الجماعات، لتحويل آلاف الشباب المسلمين، من مختلف الجنسيات، إلى مقاتلين مستعدين للموت، في ساحات القتال، أو عبر العمليات الانتحارية. كما يكون هؤلاء مهيئين لتنفيذ أوامر، تقضي بقتل وتصفية مدنيين "مبررة فقهياً"، باللجوء إلى وسائل متعددة، منها الذبح والاغتيال والقتل الجماعي على الهوية. وفي كل هذه الحالات، أرواح تسقط، ومسؤوليات تتحدد أمام الله والقانون، وشباب في مقتبل العمر يحترق بعشرات الآلاف، تاركين وراءهم أمهات بلا أمل، وزوجات بلا عون، وأطفال بلا سند.
لا شك في أن هذه الجماعات أنتجت أدبيات تمت صياغتها طوال السنوات الماضية، واعتمدت على مراجع قديمة لأصوليين معروفين، واستندت على منهج انتقائي لنصوص من القرآن والسنة، أخضعتها لتأويلاتٍ تؤدي أغراضها، وتبرر من خلالها ما تقوم به.
تعلم هذه الجماعات، جيداً، أن الأغلبية الساحقة من الشيوخ والفقهاء والوعاظ، إلى جانب حركات الإسلام السياسي، بما فيها التي تشترك معها في السعي إلى استرجاع الخلافة، جميع هؤلاء يخالفونها فيما ذهبت إليه من إخراج النصوص من سياقاتها، وتأويل الكلمات والوقائع عن معانيها ودلالاتها. وهو ما يضع هذه الجماعات في مواجهة الأمة، بمختلف مراجعها ومؤسساتها الدينية، ويجعل الكثير من أعمالها خارج دائرة الحلال، وجزءاً من دائرة الجرائم التي دانها الإسلام. ومع ذلك، يتواصل إصرارها على الاعتقاد بأنها الممثل الشرعي والوحيد للإسلام "في قراءته الصحيحة"، وتتهم كل من خالفها، وهي الأمة في مجموعها، بالخروج عن الدين و"اتباع الطاغوت".
المشكلة الثانية سياسية بامتياز. فهذه الجماعات مقتنعة بأن حروبها المفتوحة في كل مكان ستؤدي، حتماً، إلى تغيير موازين القوى، واستعادة "الخلافة" التي ستمتد في جميع القارات. ولا شك في أن الفرصة التي توفرت في سورية والعراق قد جعلت هذا الحلم يبدو قريباً من التحقق على أرض الواقع، ولو جزئياً. لكنها، من جهة أخرى، لا تأخذ في الاعتبار حجم الخسائر التي تتكبدها يومياً، ولا تقدر مخاطر التداعيات التي تترتب عن استراتيجية الحرب المفتوحة. أصبحت هذه الجماعات من الأطراف الداعمة لشركات صناعة الأسلحة الرأسمالية. كما أنها، حالياً، بصدد إنقاذ أنظمة مستبدة من الانهيار، بفضل الدعم الذي أصبحت تتمتع به الأخيرة من جهات دولية عديدة، ومتضاربة المصالح. عادت مقولة الأمن قبل الحرية بشكل قد يهدد بعض المكاسب التي تحققت مع الانتفاضات العربية.
ربما تنجح هذه الجماعات في افتكاك مدينة هنا، وأخرى هناك، لكن، في المقابل، يتسع التحالف الدولي والإقليمي ضدها، ويتطور التنسيق بين حكومات وجيوش ومخابرات ورؤوس أموال وإعلاميين ونخب ورجال دين. وتزداد الهوة بينها وبين الشعوب، ولن تكون النتيجة في صالحها، حتى لو نجحت في استنزاف أطراف عديدة. فقادتها يتمتعون حقاً بالشجاعة، واكتسبوا خبرة في مجال الحرب، لكن تنقصهم الكثير من معرفة السياسات الدولية. لهذا، هم يصنعون الحدث وغيرهم يستفيد منه، حصلت مجزرة "شارلي إيبدو"، فجاءت حكومة نتنياهو لتقطف الثمرة. وقس على ذلك أحداثاً كثيرة.
الخلاصة أن الضعف الرئيسي لهذه الجماعات يكمن في ثغرتين رئيسيتين، من جهة الغلو العقائدي الذي يؤدي إلى استباحة الدماء. ومن جهة أخرى، الجهل بقواعد اللعبة الدولية. ولهذا، أخفقت الجماعات الشبيهة لها في التاريخ الإسلامي، حيث خسرت كل المعارك التي خاضتها ضد الفرق الإسلامية، وفي مواجهة الدولة المركزية.
دلالات
266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس