عدالة واحدة و"غيرُ عادلين" متعدّدون

19 يوليو 2014

متضامنون مع الشعب الفلسطيني في باريس (يوليو/2014/فرانس برس)

+ الخط -


يوم 16 يوليو/تمّوز 2014، استشهد سبعة فلسطينيين برمي براميل متفجّرة من قوات النظام السوري على مخيّم للفلسطينيين في درعا. في اليوم نفسه، وصل ضحايا إسرائيل في قصفها غزة إلى أكثر من مئتي شهيد و1500 جريح، في إطار حربها على الشعب الفلسطيني.

في الفترة نفسها، اقترفت ميليشيات نوري المالكي الطائفية في العراق، المستعمرة الأميركية - الإيرانية، مجزرة مروّعة، قتلت فيها 28 امرأة في حيّ زيونة السكني شرقي بغداد. أما في اليمن، فقد اجتاحت الميليشيات الحوثيّة، المدعومة إيرانيّا، محافظة عمران (50 كيلومترًا من صنعاء)، ما أدّى إلى معارك مع القوات الحكومية اليمنية، ما يهدد بجدية باستيراد الاقتتال المذهبي، وتدمير المجتمع اليمني.

هذا غيض من فيض من المجازر والهجمات الموزّعة عربيّا، اليوم، من مختلف المصالح الاستعمارية المحيطة بنا، والتي يقابلها أداء قاصر عن فهم هذه النضالات، بشكل جامع، من معظم النخب العربية. واجهت الثورات والانتفاضات الشعبية العربيّة، في فترة أولى، القمع الداخلي لأنظمتها الذي كان عبئاً هائلاً، في حدّ ذاته، ثمّ ما لبث أن فاض القمع عن كل ما تمّ توقعه، كما حدث في سورية والعراق، مثلًا، بسبب التدخل الثقيل لأدوات البروباجندا والسيطرة المتنوّعة والقتل لثلاث فئات من المصالح الاستعمارية المباشرة المتقاطعة فيما بينها: الأميركية والإيرانية والإسرائيلية. لقد أدى ذلك كله إلى دقّ الأسافين العميقة في الإنشاءات والخطابات والممارسات الموجودة بين مختلف النشطاء والنخب العربية.

فقد ترفّع معظم ناشطي الثورة السورية، مثلًا، عن إبداء أيّ دعم كلامي، أو سياسي، لاعتصامات العراقيين التي بدأت سلميةً في الساحات، في بغداد ونينوى وكركوك والبصرة، وكل أنحاء العراق منذ 2011، في حين لم يكلّ نشطاء عراقيون كثيرون عن إبداء كلّ دعم إعلامي وسياسي للثورة السورية، ذلك لأنّ كثيرين من تلك النخب في سورية أملت، واهمة، بدعم الولايات المتحدة الثورة السورية، في وقت كانت الأخيرة تقوم بكلّ ما تستطيع، لتفخيخ الثورات الشعبية أو إيقافها. أدّى ذلك إلى هيمنة خطاب التزلف للغرب الذي تمّ رفعه من عادة "غير" سريّة إلى فنّ رفيع، في تناقض صارخ في ما تسمعه من سخريةٍ، يبديها معظم السوريين من "وعود الغرب"، منذ بدء الثورة عام 2011.

أما نشطاء فلسطينيون وعرب وغربيون، كثيرون، حملوا راية القضية الفلسطينية، فقد انتهى بهم الأمر إلى أنهم حوّلوها إلى صناعة حقيقيّة، تدرّ المال والشهرة، فأصبحت شعارًا عند كثيرين منهم، وخصوصا في الغرب، بدل أن يرقى نضالهم إلى مصاف كونها القضية التي استحقت أن تكون رمزًا للعدالة، ولمحاربة الظلم، أينما كان. أضر هؤلاء بالفلسطينيين وبالقضية الفلسطينية وبالعرب، بانعزالهم الفكري، وانهيارهم الأخلاقي، عندما سكتوا، ولا زالوا، عن أيّ دعم علني سياسي ومعنوي للسوريين والعراقيّين، لا بل تطور الأمر عند الأكثرية الساحقة منهم، منذ أكثر من سنة، إلى خطابات دعم لإيران، ولمجازر أُجرائها في سورية والعراق.

المثال الاستثنائي على هذا الانهيار الأخلاقي هو ريتشارد فولك، أستاذ الشرف للقانون الدولي في جامعة برينستون، والناشط من أجل القضية الفلسطينية، والمحترم جدًا في بلاد "الغرب الديمقراطي"، والذي يقول إنّه لا يمكن إحالة النظام السوري على محكمة الجنايات الدولية لجرائمه، إسوة بإسرائيل "لأن استعمال المحكمة في وسط حرب أهلية هو الانحياز لأحد أطرافها، وبالتالي التدخل في حرب أهلية قائمة، يتصارع فيها طرفان، للسيطرة على المجتمع والدولة".

حتمًا إن ضحايا البراميل والمجازر في سورية يتفهمون تمامًا تحليل فولك، المحترم جداً، للأمور. أمّا خلال حرب إسرائيل الجارية على غزّة، فقد بات جزءٌ من النشطاء يحتجّ على قصف إسرائيل غزة، بنشرهم صور مجازر اقترفها النظام السوري في حلب، مثلَا، وتزويرها على أنها مجازر إسرائيلية في غزة قيامًا على قانون العرض والطلب: إذا لم يكن لديك عدد كافٍ من الضحايا الفلسطينيين، فالأحرى بك "اختراعهم" للاتجار بهم!

لا شكّ، بداية، في أنّ هناك تفاوتاً كبيراً في الأسباب التي أحاطت بنشوء هذا الكمّ من الفاعلين غير العادلين (السياسيون، الناشطون، المحللون الإعلاميون إلخ) في كل أنحاء الوطن العربي، وابتعادهم عما يفترض أنّه يوحّدهم في مشروع ثوري واحد، هو "كونيّة العدالة"، فيما يخص نضال الشعوب العربية، وسبل توحّدها وتكامل نضالاتها. ولا تكمن أسباب ذلك، على الأرجح، في علل أخلاقية متأّصّلة في الناس، بل في كونه نتيجة التحاقات وحسابات سياسية، وتحقيقًا لمصالح ضيقة، متأتّية، أساسًا، من الواقع الاستعماري الذي يعيشه الوطن العربي، ومن أن هذه الالتحاقات والبنى مضادة، في جوهرها، لتحقيق العدالة العربيّة الواحدة.

لكن الخيط الأخلاقي-السياسي الذي يسهل اقتفاؤه، هنا، يكمن في استحالة قيام "العدالة الكاملة"، في كامل الوطن العربي بوجود أوضاع مغرقةٍ، في لا عدالتها في أجزاء منه، فالعدالة، كونها القيمة-البوصلة الوحيدة لأيّ ثورة جذرية على الأوضاع القائمة، تشكل دومًا "المسألة العربية" بامتياز، بمعنى ضرورة اشتمالها على كلّ بقعةٍ من الوطن العربي، والتي لا بدّ منها لتعبيد الطريق نحو الوحدة السياسية للعرب، إلا أنّ القصور السياسي لنخب عربية كثيرة، تزعم التكلّم باسم شعوبها، في مقابل ما قدمته الجماهير العربية من تضحيات، كان حجر العثرة الأول في سبيل تحقيق ذلك.

توجد، إذًا، أسباب كافية للزعم بأنّه، وفي وضعنا الاستعماري، لا يمكن وجود "عدالة ما" محصورة في حيّز محدّد من المسطّح العربي، إلا ويكون ذلك في نهاية المطاف على حساب نشوء فظاعات وأهوال مغرقة في لاعدالتها، في جزء آخر منه. لذلك، الانعطافة الضرورية لأي حراك ثوري عربي، اليوم، يجب أن تكون بالتحوّل من فاعلين "غير عادلين"، كما هي الحالة، اليوم، إلى "فاعلين عادلين" في السياسة، كما في الصراع الطبقي والثقافة وباقي القضايا، بوجود ثوريين، يبنون أواصر الوحدة النضالية فيما بينهم، وتكون حينها البنى السياسية المنظِّمة لعملهم معادية لكامل المصالح الاستعمارية في وطننا.

نتكلّم، هنا، عن فاعلين يعبّرون عن هموم الشعوب العربية كلها، بشكل متساوٍ، تحت راية سمو أخلاقي-سياسي واحد، لتحقيق كرامة الإنسان العربي. هذه هي الخطوة الأولى الضرورية للترجمة السياسية العضوية، لنضال المواطنين في أيّ مكان من هذا الوطن.