خزاعة وعبسان.. البحث عن النخوة

08 سبتمبر 2014

تشكو إلى الله ظلم الظالمين، وخذلان العرب والمسلمين (Getty)

+ الخط -

يُحكى في قديم الزمان، أن قوماً سموا بـ"العرب"، اقترنت أسماؤهم بكلِّ "معنىً" جميل، فأصبحوا هم وإياه سواء. كانوا يتباهون بصفات أربع: يكرمون الضيف، ويغيثون المحتاج، ويُنجدون الملهوف، ويعفون عند المقدرة. تميّزوا بـ"المروءة" عن غيرهم من الشعوب والثقافات، حتى يُقال إن لغات كثيرة لا مرادفَ لغوياً فيها لهذه الصفة النبيلة.

ومن أخلاقهم أنهم لا يخذُلون مَن استجار بهم، فكان الملهوف يدخل على شيخ القبيلة، ويعقد عقدة صغيرة في أحد أطراف غطاء رأس ذلك الشيخ، ويقول: "أنا داخل على الله، وعليك"، فيجيبه على الفور: "أَبشر وأنا أخوك"، ويلبي له طلبه.

وليست عنا بعيدة قصة "مُجير أم عامر"، الذي أجار "أُنثى الضبع"، عندما دخلت خيمته، ومنع الفرسان المطارِدين لها من قتلها، وراح ضحية هذا "الخُلُق" العربي الأصيل.

في ذلك الزمن الغابر الجميل، كان "العرب" عرباً، لا يقبلون "الضيم" في أرضهم، وعرضهم، وملّتهم، ولا يقبلون أن تُحْلَق لحاهم بـ"الموس" الأجنبي، فهم النشامى، رجال السيف، رجال الحق من سلالة نبي (صلّى الله عليه وسلّم). (الفقرة مقتبسة من قصيدة "أنا عربي أصيل"، للشاعر الفلسطيني عبد الله حداد).

وفي ذلك الزمن الغابر الجميل، أيضاً، كان أحد سلاطينهم، المعتمد بن عبّاد، يقول: "لأن أرعى إبل يوسف بن تاشفين، في صحراء مراكش، خير عندي من تنظيف حظائر خنازير ألفونسو".

أمّا مَن يقال عنهم "عرب" اليوم، فأخلاقهم وخصالهم، وطبائعهم، وصفاتهم تختلف.

أمَا سمعتم أن قريتي عبسان وخزاعة، الواقعتين إلى الجنوب الشرقي من قطاع غزة، ظلتا أياماً وليالٍ تستنجدان بهم، بلا طائل؟

قد يقول قائل: ما الجديد؟ فكم استغاثت القدس، وغزة، وجنين، وبيروت، وبغداد، ودمشق، ودرعا، ومخيم اليرموك، وحلب؟ ولم يجيبوا لها صدى؟

أجيب: هذا صحيح (يا أخا العرب)، لكن عبسان وخزاعة، حينما فتحت عليهما أبواب الجحيم الإسرائيلية، تذكرتا أصولهما العربية الأصيلة، الضاربة في أعماق التاريخ، وقررتا الاستنجاد بالأهل والعشيرة. اعتقدتا أن لهما مكانة تختلف عن سائر الأماكن.

فعبسان، التي يزيد عمرها عن ألف عام، تعود نسبتها إلى بني عبس، وهي عشيرة عربية أصيلة، من قبيلة لخم التي ترجع أصولها إلى ما قبل الإسلام.

أما خزاعة، فمنسوبة إلى قبيلة بني خزاعة التي انضمت إلى حلف الرسول صلى الله عليه وسلّم، وكانت ممراً واستراحة لرحلات التجارة من شبه الجزيرة العربية إلى بلاد الشام.

مسكينتان عبسان وخزاعة، ظنتا أن "الحميّة" العربية ستوقظ معاني الشهامة والمروءة والشرف في نفوس الإخوة العرب، وسينهضون عن بكرة أبيهم، ويحملون على "اليهود" حملة صادقة "تطير بما بقي من ألبابهم، فلا يجدون لبنادقهم كفّاً، ولأسيافهم ساعداً"، كما قال المنفلوطي، مخاطباً ثوار ليبيا في مقاله "خطبة الحرب".

لكن "خيبة الأمل"، كانت "راكبة جمل"، فلم تفلح مشاهد الجثث التي ملأت الشوارع، ورائحة الموت التي فاحت من المزارع والبساتين، في إيقاظ النائمين.

ولم تُفلح استغاثات المعذبين والمكلومين وأنّاتهم، في استنهاض همم الغافلين.

كما لم تُخِف علاقة النسب والقرابة بين العرب وخزاعة وعبسان، إسرائيل، ولم تردعها عن هدم البيوت فوق رؤوس سكانها، ولم تمنعها من ارتكاب جرائم "إعدام" لعشرات من السكان البسطاء.

انقضت مجزرة عبسان وخزاعة، يا "إخوة العرب"، لكن روح تغريد أبو رجيلة ما تزال تحوم في المكان، تشكو إلى الله ظلم الظالمين، وخذلان العرب والمسلمين.

تغريد، أيها السادة، فتاة فلسطينية مُقعدة، من سكان خزاعة، لم تفلح بالهرب، فأعدمها الجيش الإسرائيلي، في أحد شوارع البلدة.

وبعد انسحاب القوات الإسرائيلية، عاد شقيقها، نضال، للبحث عنها، فوجدها في الشارع ملقاة إلى جوار كرسيها المتحرك، وقد تحلّلت جثتها، فألقى بجسده عليها، غير مبالٍ بحال الجثمان، وأخذ يتلو عليها آيات من القرآن الكريم، إلى أن حضر جيران، ونجحوا في إبعاده عنها، وحملوها إلى مثواها الأخير.

EE1D3290-7345-4F9B-AA93-6D99CB8315DD
ياسر البنا

كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في قطاع غزة