حين فشا الزور في جنبات مصر (1)

07 يناير 2016

قلعة القاهرة في العصر المملوكي (Getty)

+ الخط -

"فشا الزورُ في مصرٍ وفي جنباتها

ولِمْ لا وعبد البَرِّ قاضي قضاتها

أيُنكر في الأحكام زورٌ وباطلٌ

وأحكامهُ فيها بمُختلفاتِها

إذا جاءهُ الدينار من وجه رشوةٍ

يرى أنه حِلٌ على شُبُهاتها"

حين كتب الشاعر المصري، جمال الدين السلموني، هذه الأبيات في عام 613 هجرية، ليفش غله ويشكو همه من فساد القضاء المصري في أيامه، لم يكن يدرك أنها، كما يروي مؤرخ زمانه ابن إياس، "ستدور بين الناس"، وتصبح لسان حال المصريين في وقت قياسي، بصورة أزعجت القضاة الفاسدين الذين هجاهم، من دون أن يسميهم، فقرّروا الحكم عليه بأن يُجلد بالسياط علناً، ويتم تجريسه في شوارع القاهرة، لأنه أهان هيبة القضاء. وكان ذلك الحكم على وشك أن يُنفّذ عليه، لولا أن "جماعاتٍ كثيرة من العوام تعصبوا للشاعر، وقصدوا يرجمون دار قاضي القضاة"، ليفلت الشاعر من عقوبة الجلد بأعجوبة، بفضل تضامن الناس الذين فاض بهم الكيل مما يحيط بهم من فساد، لكنه لم ينج من عقوبة السجن الذي قبع فيه مدة طويلة.  

كان ابن إياس يدرك خطورة القصيدة. ولذلك، حرص، وهو ينشر بعض أبياتها، على أن يبرئ نفسه، بوصفها بأنها "قصيدة مطولة فيها ألفاظ فاحشة إلى الغاية وإساءة مفرطة"، لكن أهل مصر لم يوافقوا ابن إياس في رأيه، بل وجدوا القصيدة معبرة عنهم، إلى درجة دفعتهم إلى التمرد على الحكومة من أجله، وهو ما يتوقف عنده المؤرخ الدكتور قاسم عبده قاسم في دراسته البديعة عن "عصر سلاطين المماليك"، ليعتبر تلك الواقعة جانباً مهماً من جوانب انهيار الجهاز العصبي للدولة المملوكية، والتي وصل تخلخل بنائها السياسي، وتفكك نظامها الاقتصادي والإقطاعي، إلى حد جعل قانصوه الغوري، آخر سلاطين المماليك البرجية، يبكي خوفاً من تبعات المنصب السلطاني الذي اختاره له الأمراء، ويحاول مراراً رفض الجلوس على عرش السلطنة، لكن تدهور دولة سلاطين المماليك لم يكن وليد حكم سلطان أو اثنين، بل كان وليد عقود من التدهور والانحطاط والفساد والظلم، تركت آثارها الخطيرة على شكل الحياة في المجتمع المصري، وجعلت تلك الدولة التي كانت، في بدايتها، قوية عفيّة، تتحول، في عيون المصريين، مع مرور الوقت، من مصدر للحماية والأمان إلى عدو شرس يتمنى الناس زواله، ولا يستحق أن يبادروا إلى إنقاذه، حين يصبح مهدداً بالسقوط.

أمراء الطبل خانه

"ليس فيهم إلا من هو أزنى من قرد وألص من فأرة وأفسد من ذئب". هكذا وصف المؤرخ المصري، تقي الدين المقريزي، أمراء وكبراء زمانه من المماليك، وهو يجسد دناءتهم وطمعهم ونهبهم مال الدولة، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، مع أنهم لم يكونوا يشكون أبداً من الفقر والفاقة، فقد مكّنتهم مناصبهم من الانفراد بأموال الدولة، وسمحت لهم أن يتصرفوا فيها كما شاءوا من دون رقيب ولا حسيب، فاحتكروا مثلاً بعض التوابل النادرة، ليبيعوها للأجانب، بعد أن حظروا بيعها على التجار المصريين، لتمكّنهم قرارات كهذه من جمع ثروات طائلة، أفاضت كتب التاريخ في وصفها، من ذلك، مثلاً، ما يقوله أبو المحاسن بن تغرى بردي في كتابه "النجوم الزاهرة"، أن السلطان برقوق ترك، في الخزانة عند وفاته، ما يزيد عن ألف ألف دينار من الذهب، ومن الفراء ما قيمته أيضاً ألف ألف دينار، وقد كان ذلك بالطبع قبل أن تفتح سويسرا خدماتها البنكية، ليستولي على ثروته من تلاه.

كان فائض الأموال لدى سلاطين المماليك وعظمائهم أكبر من أن يتم اختزانه. لذلك، فقد تنافس

كبارات الدولة في تشييد القصور والتفنن في زخرفتها والتأنق في تأثيثها. ولذلك، كما يقول الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور في كتابه "المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك"، أصبحت مصر مضرب الأمثال، بعد أن اشتهرت بثرواتها الطائلة، فقصدها كثيرون من أهالي بلاد المشرق والمغرب، لمّا بلغهم عن أحوال مصر التي تنعم في الترف والغنى، كان من هؤلاء، مثلاً، الرحالة الغربي فرسكو بالدي، الذي جاء إلى مصر سنة 1348 ميلادية، وأفاض في وصف ضخامة الثروة التي يتمتع بها أمراء المماليك، ومظاهر الترف والنعيم التي تعم قصورهم، ولعلي لا أجد مثلاً على ذلك أبلغ مما ذكره المقريزي، حين أرّخ وقائع نهب قصر الأمير قوصون سنة 742 هجرية، فقال إن سعر الذهب هبط في الديار المصرية بعده، "لكثرة ما وصل من الأنهاب الذهبية إلى أيدي الناس".

حين يتحدث المقريزي عن أميرٍ مثل شمس الدين بيسري يقول إن "عليق خيله وخيل مماليكه، بلغ في اليوم الواحد ثلاثة آلاف عليقة، وأن راتب كل واحد من مماليكه بلغ في اليوم مائة رطل لحم، وأنه اعتاد أن ينعم بالألف دينار مرة واحدة"، ولم يكن ذلك غريباً، حين تعلم أن متوسط ما كان يتم إقطاعه للأمير من قرى، كان يتراوح بين زمام قرية وعشر قرى، أما المملوك السلطاني "سيئ الحظ" فكان إقطاعه يتراوح بين زمام قرية ونصف قرية، أما إقطاع جندي الحلقة فلم يكن يقل عن نصف زمام قرية. ولترجمة تلك الامتيازات إلى أرقام، ينقل الدكتور عاشور عن المؤرخ المصري القلقشندي أن إقطاع الأمير الكبير الممنوح له من الدولة كان يقدر بمائتي ألف دينار، أما أمير الطبل خانه، والذي يصنف أميراً من الدرجة الثانية، حيث يقع تحت إمرته أربعون فارساً، ومع ذلك، تدق الطبول على بابه، ومن هنا، حمل اسم (أمير الطبل خانه)، فيتراوح إقطاعه الممنوح له من الدولة بين ثلاثة ألف دينار وثلاثة وعشرين ألف دينار.

وكما يقول الدكتور قاسم عبده قاسم، أثبتت سياسة منح الإقطاعات، على المدى الطويل، أنها كارثة على الاقتصاد المصري، لأن الأمير أو الجندي، صاحب الإقطاع، كان يعلم مسبقاً أنه لن يستقر بذلك المكان الذي تم إقطاعه له. ولذلك، لم يكن يولي الأرض الزراعية أي اهتمام أو رعاية حقيقية، ولذلك، تم إهمال وسائل الري والصرف، وكثرت حوادث انقطاع الجسور وعطش الأراضي الزراعية، نتيجة إهمال المماليك وسائل ضبط النهر، لكن ذلك لم يكن يهم المماليك، لأنهم في حين قل اعتمادهم على عائد الأرض الزراعية، زاد معدل اعتمادهم على الرواتب النقدية التي كان السلاطين يصرفونها لهم، ليدفع أهالي تلك الإقطاعيات من الفلاحين ثمن عدم اهتمام كبراء الدولة بأداء واجباتها.

لم يكن المماليك يصبرون أبداً، حين تتأخر مخصصاتهم المالية، حتى حين تكون الدولة في أسوأ

ظروفها المالية، فحين شكا السلطان قانصوه الغوري، مثلاً، أن خزانة الدولة خاوية في حين كثر العسكر من سائر الطوائف، ما بين "ظاهرية وأشرفية وإينالية وخشقدمية  وقايتبايهية وناصرية، ومماليك الظاهر قانصوه ومماليك الأشرف جانبلاط، ومماليك العادل طومانباي، ومماليك النواب والأمراء الذين قتلوا، فمن أين أسد هؤلاء المماليك"، ولم يستقبل كل هؤلاء المماليك شكوى السلطان بتفهم ظروف الدولة الصعبة، بل هدّدوا بالتمرد، لو لم تتم الاستجابة لمطالبهم المالية. وفي العام التالي، حين تأخرت مرتباتهم ثلاثة أشهر، كرّروا تهديدهم بشكل أكثر قسوة، فأخذ السلطان يستولي على أموال المصريين قسراً، وطالب أصحاب الأملاك من السكان بأن يدفعوا أجرة مساكنهم ودكاكينهم عشرة شهور مقدماً، وهو ما يعلق عليه ابن إياس قائلا "فحصل لهم ـ أي لأصحاب الأملاك ـ بسبب ذلك الضرر الشامل، وتعطلت الأسواق من البيع والشراء، وغلقت غالب دكاكين القاهرة، ووقع الاضطراب للغني والفقير، وصار الناس بين جمرتين".

وحين عجز قانصوه الغوري، بعد ذلك بسنوات، عن دفع مرتبات المماليك، لم ينتظروه هذه المرة، بل نزلت جموعهم إلى شوارع القاهرة، فنهبوا سوق جامع ابن طولون وسوق الصليبة وسوق تحت الربع وسوق البسطيين، وأغلقت باقي الأسواق، "حتى كادت مصر أن تخرب عن آخرها في هذا اليوم"، على حد تعبير ابن إياس الذي يقول إن عدد الحوانيت التي تم نهبها في ذلك اليوم كان خمس مائة وسبعين حانوتاً، وحين تكرّرت تلك الحوادث، واستمر عجز الدولة في منعها، اضطر بعض الأهالي إلى التصدي للمماليك الذين زاد بطشهم، فسيّروا المنادين في القاهرة لينادوا بأنه "..لا سوقي ولا تاجر يبهدل مماليك السلطان، ولا يمسك لأحد منهم فرس، ومن فعل ذلك قطعت يده"، ليتخذوا من ذلك التهديد ذريعة لزيادة عمليات نهب الدكاكين، من دون أن يتعرّض لهم أحد، لكيلا يتعرض لقطع يده.

صناعة نهب البضاعة

لم تكن الإقطاعات والمخصصات المالية الممنوحة من الدولة المصدر الوحيد لثروة أمراء المماليك، فقد كان كل سلطان يصرف لأمرائه، أيضاً، مقادير ثابتة من اللحم والخبز والتوابل والزيت والشمع، بالإضافة إلى الكسوة السنوية. وبالطبع، كانت تلك المقادير تتفاوت بحسب المراتب، وبحسب رضا السلطان أيضا، كما أنها لم تكن العطايا الوحيدة الممنوحة من السلطان، فكلما ولد لأحد الأمراء ولد، كان السلطان يخصص له زيادة في المال واللحم والخبز، حتى يكبر ابنه، وعندها يدخل ضمن ميزانية الدولة، فيمنح إقطاعاً مستقلا له، وهكذا دواليك. كانت عطايا السلطان تشمل الزيجات، وما يرتبط بها من جهاز ومصاريف، خذ عندك، مثلًا، الأمير محمد بن قلاوون (السلطان فيما بعد) الذي بلغ جهاز زواجه المخصص من الدولة له، حمولة ثمانمائة جمل وستة وثلاثين قنطاراً من البغال، كما بلغ وزن الذهب في المصاغ والملابس الزركش ثمانين قنطاراً. وعلى الرغم من ذلك، استصغر والده السلطان الناصر هذا الجهاز عندما رآه، وقال له إنه رأى شوار بنت الأمير سلار أحسن منه وأكثر، ووصلت مظاهر الأبهة والرفاهية إلى أبعد مدى، كما يروي لنا القلقشندي، حيث بلغ الأمر ببعض السلاطين إلى جلب قطع ضخمة من الثلج من جبال الشام، لتبريد الماء زمن الحر صيفاً، مع الحرص على تخصيص سفن تحمل الثلج في البحر، وهُجُناً تحمله في البر، ليصل إلى القلعة، ويحفظ في أماكن مخصصة له في "الشراب خانه"، وكان ثمّة عرف سائد بين سلاطين المماليك، يقضي بتبديل ملابسهم ثلاث مرات في اليوم الواحد، وكان الرداء الذي يخلعه السلطان، لا يلبسه مرة ثانية مطلقا، بل يأخذه خاصته.

لكن كل مظاهر الرفاهية التي لا يتسع المقام لذكرها لم تصب المماليك بالشبع والرضا، بل كانوا يتمردون دائما مطالبين المزيد، وكان الأمر يصل أحيانا إلى تمردات عنيفة، كالتمرد الشرس الذي وقع في سنة 855 هجرية، وكان مألوفاً أن يقوم بعضهم بقتل رئيسه من أجل السيطرة على إقطاعاته ومخصصاته، وكما يقول الدكتور عاشور فإن اشتراك كبراء المماليك في المصالح، لم يمنعهم أبدا من الانقسام إلى شيع وطوائف، تتجسس على الأخرى، وتسعى لنهب امتيازات بعضها البعض. وكما يقول أبو المحاسن في (حوادث الدهور)"كان إذا مرض مملوك من غير طائفته أو انقطع في بيته، أسرع مملوك آخر لأخذ إقطاعه، حياً كان أو ميتاً"، في الوقت الذي "أكثروا فيه من التعرّض لحريم الأهالي وأولادهم"، فأصبحوا رمزاً للسلب والنهب والإجرام، وعنوانا للفوضى وعدم الاستقرار في البلاد، على حد تعبير الدكتور عاشور، الذي يرى أنهم بأفعالهم تلك استحقوا وصف المقريزي لهم في خططه، بأنهم "ليس فيهم إلا من هو أزنى من قرد وألص من فأرة وأفسد من ذئب".

وعلى الرغم من أن المؤرخ ابن تغرى بردي، وهو من أبناء أمراء المماليك، يحاول أن يرسم صورة حسنة للمماليك في أول عهدهم، حيث يقول إنهم كانوا "على حظ وافر من الأدب والحشمة، والتواضع مع الأكابر وإظهار الناموس وعدم الازدراء بمن هو دونهم"، لكنه يعترف بأن ذلك تبدل تماما، بعد أن جرت الأموال في أيديهم بلا حساب، فغدوا "ليس لهم صناعة إلا نهب البضاعة، يتقوون على الضعيف، ويشرهون حتى في الرغيف، جهادهم الإخراق بالرئيس وغزوهم في التبن والدريس"، مشيراً إلى إمعانهم في حياة المجون واللهو، حيث كان بعضهم يتفنن في ابتكار أنواع من الخمور لتعرف باسمه، مثل الأمير تمربغا الذي اخترع نوعاً من الخمور حمل اسم "التمربغاوي"، وكان بعضهم يمعن في استعراض نزواته أمام الناس، مثل السلطان إسماعيل بن الناصر الذي اعتاد عند ركوبه إلى سرياقوس للرياضة أن يصحب معه في ركابه مائتي امرأة للاستمتاع بهن، والملفت أن كثيراً من الملتصقين بطبقات الأكابر والأعيان، في ذلك الزمان، ظهرت عليهم أعراض السلوك  المملوكي من دون أن يكونوا مماليك. ولذلك، أخذوا يفضلون أكل المطاعم على أكل البيوت، رغبة  في التباهي والفشخرة، وكانوا يحبون التفاخر بالحفلات والأفراح، اقتداء  بأمراء المماليك، إلى درجة أن "بعض الناس كان يبيع منهم الواحد ثيابه، ويقترض الأموال بالربا، ليتباهى أمام الناس، ويقال طعام فلان أكثر من طعام فلان".  

عصر البراطيل

"امتلأ المجتمع بكثير من الأمراض الاجتماعية الخبيثة التي انتشرت بين جميع الطبقات، حكاماً ومحكومين، من أهل الدنيا والدين، كان ذلك العصر يمتاز بمسحة براقة من الصلاح والتقوى والحرص على إقامة المنشآت الدينية الفخمة والرغبة في المبالغة في إحياء شعائر الدين، لكن هذه المسحة الخارجية لا تلبس أن تتضح حقيقتها لمن يتعمّق في البحث، فتبدو طلاءً خادعاً يخفي وراءه انحلالاً خلقيا بعيد الغور وأمراضاً متوطنة خبيثة، تثير الاشمئزاز والنفور".

هكذا يصف المؤرخ الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور أحوال المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك، كما درسها في أهم المصادر التاريخية، وفي مقدمتها تأريخ المقريزي تلك الفترة، الذي تحدث فيه بأسى شديد عن تفشي الرشوة التي كان يطلق عليها وقتها تعبير "البراطيل"، فيقول إنها صارت شائعة بين الحكام والمحكومين، وإنها تحكمت في ولاية المناصب كافة، "بحيث لا يمكن التوصل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل"، وصار التعامل بالبراطيل أو بالرشاوي "عرفاً غير منكر ألبتة، وفشت فشوا كبيراً في القضاء والاحتساب وبين الولاة، "وهكذا اختل إقليم مصر خللاً شنيعاً" على حد تعبير المقريزي، الذي يكرّر رصده ظاهرة الرشوة العلنية في موضع آخر، قائلا "تجاهر الناس بالبراطيل، فلا يكاد أن يلي أحد وظيفةً، ولا عملا إلا بمال، فترقى للأعمال الجليلة والرتب السنية الأراذل وفسد بذلك كثير من الأحوال".

لم يقتصر جمع الرشاوي على الأمراء والموظفين العموميين، بل امتد إلى أخطر جهاز في الدولة، وهو جهاز القضاء، ليشتهر قضاة زمن المماليك بالتفنن في جمع الثروات "والتشبه بأهل الدولة" على حد تعبير المقريزي، حتى كان القاضي الذي يركب حماراً يُضرب به المثل في التواضع الجم، وتعليقاً على لوم ابن تغري بردي قضاة عصر المماليك، لأنهم أهملوا في شؤون الأوقاف، وفرّطوا في تأدية واجباتهم. يقول الدكتور سعيد عاشور "يبدو أن هذا التراخي جاء نتيجة طبيعية للجاه الذي أصبح فيه القضاة، وحياة الدعة والترف التي انتقلوا إليها، بعد أن غلبت شئون الدنيا على الدين، فساد التنافس والتحاسد بينهم، حتى أن المجالس السلطانية نفسها لم تخل من منازعات بين القضاة، تصل إلى درجة السباب والفحش في القول".

كانت أوضاع القضاء فاسدة للغاية، حتى كان القضاة الصالحون يتهربون من قبول منصب القضاء، بل وكان بعضهم يهرب حرفياً، ليختفي في مكان مجهول، حين يتم تكليفه بالمنصب، لكيلا يضطر لقبول ضغوط المماليك عليه، حين يطلبون إصدار الأحكام لصالحهم، خصوصاً أن الضغوط كانت لا تقتصر فقط على الأمراء من المماليك، ولا على مساعديهم وجنودهم فقط، بل وامتدت إلى زوجاتهم وأمهاتهم، خصوصاً بعد أن شاع تفرغ بعض السلاطين لشهواتهم، وتسليمهم مقاليد الحكم لزوجاتهم، ليس من باب تمكين المرأة، بل من باب تكبير الدماغ والتفرغ لملذات الحياة. يصف لنا ابن تغري بردي، مثلاً، دور سيدة حديدية، مثل خوند زينب زوجة السلطان إينال، التي قال إنها "صار لها نصيب وافر مع السلطان في كل هدية ورشوة، ... وصارت تدبر أمور المملكة من ولاية وعزل"، وهو ما سنجده أيضاً في أوصافٍ أخرياتٍ، مثل أم السلطان شعبان وزوجة السلطان برسابي وغيرهن، ممن أصبحن، على حد تعبير السخاوي، على جانب كبير من "نفوذ الكلمة وطواعية السلطان لأوامرهن، فيصبح السلطان لا اختيار له معهن"، حتى كان أصحاب الحاجات لا يتجهون، أحياناً كثيرة، إلى رشوة السلاطين والأمراء، بل يبحثون عن طريقٍ يوصلهم إلى حريم السلطان، لإيصال رشاويهم وقضاء حوائجهم.

نكمل غداً بإذن الله.

دلالات
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.