الجنوب بعد غياب

12 اغسطس 2016

الخميني وخامنئي ونصر الله في قرية الكفور اللبنانية (1مارس/2016/Getty)

+ الخط -
كانت علاقتي بجنوب لبنان دائماً علاقة عاطفية. ليس لقرب الجنوب من الجليل الفلسطيني شأن بها، ولا للملاذ الآمن للمقاومة الفلسطينية في ذلك المكان من لبنان، في عهدٍ مضى، تأثير في حضور الجنوب في وجداني على مر السنوات المزدحمة بالأحلام والطموحات والهزائم والخذلان والفجائع. وحين أحاول أن أقرأ تاريخ القهر، منذ وعيت، تبزغ أمام عينيّ مفردات الأسى والحرمان والفقر وانصهار الطيبة التي تحملها تلك اللهجة المحبّبة، بما فيها من مشاعر الأمان والألفة والمودة. كان الجنوب القصيّ ملاذ طفولتي، وكانت شجرة الخرّوب في قرية أمي الجنوبية، بثمارها المتحولة من الأخضر القاتم إلى الأسود الداكن، عصارة مرقدي الآمن في طفولةٍ بعيدةٍ.
تتركني جدّتي تحت ظلالها الكريمة نائماً، تداعب جفوني نسماتٌ عليلةٌ ربما كانت هائمةً من الجليل، لتنعش قلب الطفل اللاجئ السقيم. كان الجنوب، للطفل الذي كنته، صورةً مكللةً بندى الصباحات وأغنيات شحرورٍ يلتقط حبيبات القمح في أيام الحصاد، ونهيق حمار جدي الفلاح الجنوبي، بسرواله الأسود، وكوفيته البيضاء، وعقاله الأسود، وهو يحث الخطى نحو الحقول الخصبة، كأنه رسول التراب الذي ما إن يبذر فيه بذرةً من يده المشبعة بالحلم، حتى تتحول الأرض إلى ما يشبه كتاباً، كلّ مفرداته حيّة وفتية، وكأن الأرض آيات مرسلة من آلهاتٍ قديمةٍ، لا تعرف الدماء ولا الأحزان.
كان الجنوب بلادي، وأنا أطلّ من شرفاته إلى بلادي، وكان أهل الجنوب أهلي، الذين أحمل دمهم في دمي، وينتابني الأسى لدمهم وحيرتهم وضياعهم. لا أغيب كثيراً عن الجنوب، حتى أعود إليه بشوق وحنين ومودة. وحين أغيب في بلاد بعيدة، أعود إلى لبنان، فلا أشعر أنني في لبنان من غير زيارتي إلى الجنوب، إلى أقاربي وأصدقائي . ولكن الجنوب اليوم مكتظ بصور الصغار القتلى. في كل قريةٍ تزورها، تجد وجوهاً شابةً معلقةً على حيطان البيوت وأعمدة الكهرباء والأشجار، حتى تخال أن الفضاء الفارغ معلقٌ في الهواء الثقيل، ولا يستند إلاّ إلى صور القتلى. كنت أرى ذلك فيما مضى، كانت الصور فخورةً بذاتها، فأصحابها سقطوا في القتال ضد العدو الذي لا ينكر أحدٌ عداوته. كانوا يبتسمون ابتسامة الأعزاء إلى القلوب، وكان الناظرون إليهم يبتسمون لهم ابتسامة الشكر والعرفان، فهم منحوهم أمناً وطمأنينةً، وكانت الأرض تبتسم لهم، فقد احتضنت دمهم، وأودعت أسرارها في مثاويهم وأسكنت أحلامهم البريئة بكل دعةٍ وحنو في ترابها القاني مثل دمهم.
الجنوب اليوم مصنع للحزن والثكل واليتم والغضب والقلوب الجريحة للأمهات والآباء والشقيقات والأبناء. لا صورة اليوم فخورة كما يجب أن يكون الفخر. قادت سياسة حزب الله أهل الجنوب إلى أتون المأساة، وإلى دموعٍ لا تستدر دموع الآخرين. ربما الغضب، ولا غير الغضب، حين ترى إلى صور هؤلاء الصغار الذين يسقطون كل يوم في سورية معلقةً في فضاء الجنوب والغضب، ولا غير الغضب، حين تسمع الفلاح الذي يشكو هلاك الزرع في غير مطرحه، والأم التي تبكي وليدها الذي حلمت بأبناء له، يلعبون أمام دارها، ويأكلون من ثمار أرضه، وعاد إليها لا يحمل سوى موته بتكليف شرعيّ.
أمشي في شوارع المدن والقرى الجنوبية اليوم، كأنني في حلمٍ، لا بل كأنني في كابوس، وأنا أرى صور الولي الفقيه الإيراني وصور بشار الأسد، باهتةً لا تحمل أي معنى غير انحدار المعنى والخيبة والخذلان لصور الصغار الذين يسقطون في سورية من شباب الجنوب. أمشي وأتطلع إلى انعدام جدوى الموت، وتصاحبني خطابات أمين عام حزب الله، الشيخ حسن نصرالله، من حوانيت بيع الكاسيتات الفقيرة، يهدّد ويتوعد أعداءً هم اليوم في المكان القصيّ من اهتمامات حزبه وداعميه. نعم أشعر بالحزن من أجل هؤلاء الصغار، فأنا أعرف أهل الجنوب من نسماتٍ لوّحت وجوههم بلون تراب الجليل.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.