Skip to main content
البلطجة تحاصر العرب
عبد العزيز الحيص
عناصر من "بلاك ووتر" في مروحية في بغداد (سبتمبر/2005/أ.ف.ب)
في مقابلة إذاعية قديمة معه، تحدث صاحب "الحرافيش" نجيب محفوظ، عن بلطجي معروف احتاجته الشرطة قديماً ليقدم لهم بعض الخدمات. ففي مصر قبل عام 1936، كانت الامتيازات الأجنبية قائمة، وكان مأمور الشرطة يتخوف من التعرض للأجنبي المستعمر، لذا، كانت الشرطة تستخدم البلطجي، ليصفي حساباتها مع من يهددها من هؤلاء الأجانب وغيرهم، وبذلك، لن يوجد عليها أي تبعات.

هذا النمط من الاستعانة بالبلطجة قبل قرن، لا يزال يتجدد حضوره، حين يضعف القانون وتضعف الدولة، فتلجأ لأذرع جانبيةٍ، تساعدها في فرض هيمنتها، حقاً أو باطلاً. اليوم، تستمر حكومات ودول في فعل الأمر نفسه، استخدام البلطجة، أو "القوة المتجاوزة للقانون"، وذلك حين تضعف الدولة تجاه القانون، ضعفاً عن تطبيقه، أو ضعفاً عن التمسك به.

تمثل البلطجة حاجة "وظيفية" في بعض الدول التي لديها ضعف في المؤسسية، ولديها إشكال مباشر في العلاقة مع شعبها. فمع تعقد كيان الدولة الحديثة، تعددت مصالح النخب والطبقات الحاكمة، وهذه تتعارض مع حاجة الفرد ومصالح الشعب. نزعة الدولة (Statism) تتغلب دوماً على نزعة الأفراد ومصالحهم (Individualism)، باعتبار أن لدى النخب الحاكمة دوماً أدوات وقوى، تمكنهم من الهيمنة وتغليب المصالح الذاتية والآنية لهم.

يتجلى هذا الشرخ، لاحقاً، في الفجوة بين الدولة والشعب. تريد الدولة أن تسيطر على الشعب، وتقمع تحركاته التي تضغط عليها لتغيير نهجها الذرائعي، في إدارة علاقات الدولة ومواردها. لكن الدولة لا تستطيع ممارسة القمع المباشر والعلني، ولذا، تتجه إلى استخدام أدوات أخرى، تبرئ ساحتها، ولا تجعلها في الواجهة. من ذلك استخدام جزء من الشعب ليمارس البلطجة والتعدي على المتظاهرين، كما شاهدنا في أحداث الربيع العربي.

لا يزال استخدام البلطجة والطبقة السفلية من الشعب على مستوى الأخلاق حاضراً، هذا ما حدث في مصر. تم استخدام البلطجة، كما تم استخدامهم تاريخياً، وموقعة الجمل إبان ثورة يناير من أمثلة ذلك، حيث كان البلاطجة أبطال هذه الغزوة ضد الثوار السلميين. والإعلام الحكومي المساير لخط الدولة العميقة، وسند الثورة المضادة، استمر في دعم البلاطجة الذين هاجموا المحتجين، لاحقاً، في محطات مختلفة. إحدى طرق هذا الدعم، كانت وصف الإعلام لهم بطريقة مستفزة أنهم "المواطنون الشرفاء" الذين وقفوا أمام "المخربين"!

أصبح من وجوه تعطيل الإصلاح الشهيرة في العالم العربي أن يكسب النظام التأييد عبر تخويف الناس من رفاقهم المواطنين. يوضح برهان غليون أنه في أثناء الثورة الحالية في سورية، عمل النظام في دأب على منهَجة الطائفية وترويجها وبث أفكارها بين الناس، ليسلم هو.

ومن منا لا يعرف ظاهرة "الشبيحة" الإجرامية في سورية، وأثرها البالغ على حياة الناس، ولأزمان طويلة قبل الثورة. سريعاً ما استعان النظام بهم في أثناء تداعيات الثورة، ولم يراع الشبيحة في سورية أي اعتبارات للدين، أو الأخلاق الإنسانية، حين ارتكبوا تصرفاتهم المرعبة والوحشية تجاه المواطنين المسالمين. ووصل دورهم الوظيفي، في أثناء الثورة، إلى أن تحولوا إلى ما يسمّى "جيش الدفاع الوطني" الذي تشكل عبر "الحرس الجمهوري الإيراني"، باعتراف قادة الأخير. كان لهؤلاء البلاطجة من الشبيحة، بجانب النظام، دور أساس في دفع الأحداث في سورية إلى أن تنقلب إلى بقعة من "جهنم" على الأرض.

تولد البلطجة، حين تتعطل مفاصل الحوار والحركة في البلد. حين يتم الانتقال من التشويه المعنوي والثقافي واللفظي إلى مد اليد والترهيب. لا تتمثل ظاهرة البلطجة فقط في من يحمل البلطة، ويريد ضرب الناس، فالدولة حين تفشل أجهزتها الوظيفية وتضعف، يتم استخدام أبعاد مختلفة للبلطجة والتشبيح، ومن ذلك وجود إعلاميين، ومرتزقة دين، وكتاب صحف وسوى ذلك ممن يدور في هذا الفلك، ويقوم بدور قمعي، لا تود الدولة أن تقوم به مباشرة.

 


حتى المثقفين حين تشل بينهم يد الحوار وتعجز، يميلون إلى استخدام ذلك. ومن الحكايات اللافتة التي لا يكاد يصدقها المرء، ما ذكره عبد الرحمن بدوي في سيرته، حين انتقدهم العقاد هو ومجموعته في حركة "مصر الفتاة"، ولم يقدروا على الرد عليه كتابةً، لأن ردود العقاد أقوى، فتربصوا به وهو عائد إلى بيته وضربوه. وبعدها، توقف العقاد عن الكتابة عنهم. والمثير أن بدوي يسوق هذه القصة من دون أية نبرة اعتذار وتراجع! هذا موقف من أناس من كبار المثقفين، فغير مستغربٍ، إذن، فعل الناس، اليوم، في بعض البلدان، حين ضعف الأمن، وسادت القوى المتجبرة!

القاعدة هنا بسيطة. حين تضعف المؤسسات والقوانين والشفافية، فإن البلطجة هي الحل، هي أداة القوي لإخضاع من هو أضعف منه. العرب محاطون بالبلطجة، ليس فقط في داخل دولهم، بل أيضاً، عبر المجتمع الدولي. إسرائيل هي كيان البلطجة الأول في العالم. منذ وجدت، وهي على النهج نفسه، بدءًا من عصابات الهاجانا، وحتى جيشها المتطور اليوم. إسرائيل لا تدخل معاهدات سلام، ولا اتفاقيات نووي، ولا تتفاعل مع أي شكل من الاتفاق والتقدم إلى الأمام. لأنها، ككيان، تريد أن تحمي أفعالها الاجرامية، ونهجها الذي تأسست عليه، كاستمرار الاستيطان واغتيال الفلسطينيين والتجسس على العرب. لن تبقى إسرائيل إسرائيل، لو أوقفت بلطجتها على الشعب الفلسطيني!

وهناك أيضاً البلطجة الدولية. فالدول المهيمنة، وجيوش الاحتلال، مثل الأميركي الذي قدم إلى العراق وأفغانستان، تبحث عن البلطجة، لتخفف عنها مسؤولية الارتباط بجرائم المجازر والانتهاكات. من هنا، استعان الجيش الأميركي بمرتزقة "بلاك ووتر"، وهم مجرد بلاطجة وعضلات، قدموا من دول مختلفة من العالم، كي يقتلوا لأجل المال، بقيادة أمير عصابتهم الأميركي، إيريك برنس.

هذه العصابات تم طردها من أميركا، وتمت إدانتها وملاحقتها قانونياً، لكن، ويا للسخرية، هي تعيش، اليوم، في بلدان عربية. يذكر الصحفي الاستقصائي، جيرمي سكاهيل، في كتابه "بلاك ووتر"، أن المنظمة أعلنت، صراحةً، أن قواتها فوق القانون. ويصفهم سكاهيل أنهم مرتزقة، يقررون مصائر دول وشعوب، وأيادٍ نافذة لغرف الحكم في واشنطن. 

تعود ردة فعل العرب السلبية في بعض المواقف إلى أن خيار البلطجة المقابل لا يُمكن لهم التفاعل السليم. ردة الفعل عادة تكون من جنس الفعل، كيف ترد على مستعمر يستخدم القوة لإذلالك، لعصابات مرتزقة تُرسل للعيش في بلادك، لمستبدين لا يتواضعون للحوار معك، ولدى أجهزة أمنية قوى ظاهرة وخفية لإخافتك ومنع صوتك ورأيك ووجودك من الظهور! لقد قادت ظروف السنوات الأخيرة العرب للتعرف إلى نوعيات البلاطجة وتأملهم عن قرب. البلطجة أصبحت تقود المشهد بعد ثورات الربيع العربي. خلاصة الحديث، لكل شعب "بلطجيته"، والشعب المحظوظ هو الذي لم تمنحه الظروف فرصة التعرف إليهم.