إنهاك المنطقة اقتصادياً لمصلحة إسرائيل
مرت خريطة القوى الاقتصادية بمنطقة الشرق الأوسط بتغيرات عدة خلال الفترة الماضية، وبغض النظر عن مصدر هذه القوة، سواء كانت المصادر الريعية كما هو الحال مع إيران ودول نفط عربية، أو من خلال الإنتاج الصناعي التقليدي وانتعاش قطاع الخدمات، كما في تركيا، أو الاقتصاد المتنوع والموارد البشرية كما هو في مصر.
لكن ظلت إسرائيل تصنف على أنها أحد مراكز القوى الاقتصادية في المنطقة، من خلال الدعم المقدم لها من قبل أميركا وأوروبا، ومن الدول الصاعدة كذلك.
ومؤخرًا استحوذت إسرائيل على منابع الغاز الطبيعي في البحر المتوسط أمام شواطئ فلسطين المحتلة، مما جعل الحديث الآن عن معاناة الاقتصاد الإسرائيلي من "المرض الهولندي" خلال السنوات القادمة، وذلك نتيجة زيادة عوائدها من الغاز الطبيعي وتأثير ذلك على نشاطها الإنتاجي، وارتفاع قيمة عملتها المحلية أمام العملات الأجنبية، مما يعمل على إعاقة صادراتها السلعية.
وإذا ما نظرنا إلى القوى الاقتصادية التي كانت تمثل المكونات الرئيسة للخريطة الاقتصادية للمنطقة، نجدها بلا استثناء تعاني من تراجع اقتصادي، باستثناء إسرائيل، ولا شك في أن ما مرت به المنطقة من أحداث سياسية، وكذلك أزمة انهيار أسعار النفط في السوق العالمي، كان له دور مقصود من أجل بلورة خريطة اقتصادية جديدة للمنطقة، تتفوق فيها إسرائيل على باقي دول المنطقة، وتجعل من مشروع الشرق أوسطية واقعاً معيشاً.
والمتابع للشأن الاقتصادي للبلدان الرئيسة في اقتصاديات المنطقة، يجد أن غالبية مؤشراتها الاقتصادية الكلية متراجعة باستثناء إسرائيل، وتعمل دولة الكيان الصهيوني من خلال استراتيجية ثابتة لدمج نفسها في اقتصاديات المنطقة، عبر اتفاقيات السلام التي شملت مصر والأردن، أو مكاتب التمثيل التجاري المتبادلة مع بعض دول الخليج، وكذلك وجود تعاملات تجارية واقتصادية غير معلنة مع دول عربية أخرى في المنطقة.
كما عادت علاقات الكيان الصهيوني بتركيا على الصعيد الاقتصادي، بعد تسوية قضية سفينة مرمرة، والتي كانت متجهة لكسر الحصار على قطاع غزة، حيث حصلت تركيا على تعويضات مادية لشهدائها على تلك السفينة قدرت بنحو 20 مليون دولار.
وبذلك ضمنت إسرائيل تنامي تعاملاتها الاقتصادية مع أنقرة والتي تقدر بنحو 5 مليارات دولار، ومرشحة للزيادة في ظل الحديث عن إمكانية تصدير إسرائيل الغاز المستخرج من الأراضي المحتلة بفلسطين إلى تركيا.
ومن عجب أن كافة دول المنطقة تورطت في استنزاف اقتصادياتها على مدار السنوات الماضية، من خلال الدخول في حلبة إفساد ثورات الربيع العربي، مما أوجد دائرة ملعونة من الحروب الداخلية والبينية في المنطقة، أرهق اقتصادياتها، وفي حالة توقف هذه الحروب سيكون أمام دول المنطقة تحدي تكلفة إعادة الإعمار.
كما أن مخطط إيران التوسعي في المنطقة العربية عبر الدخول مباشرة في حروب بسورية واليمن، أفسد عليها مكاسبها من نجاح مفاوضاتها مع أميركا وأوروبا بشأن برنامجها النووي، ورفع العقوبات الاقتصادية عنها مطلع 2016.
انكشاف اقتصاديات الخليج
وبعيدًا عن التداعيات السياسية، وجدت دول الخليج النفطية نفسها في حالة انكشاف اقتصادي في ظل أزمة انهيار أسعار النفط، وكذلك عدم قدرتها على حسم أي من صراعاتها في المنطقة من خلال إمكاناتها الاقتصادية، بل استطاع النظام الانقلابي في مصر توظيف الموارد المالية الخليجية لدعمه بشكل قوي لتثبيت أركانه، ثم تخلى عن مناصرة دول الخليج النفطية في توجهاتها السياسية، وبخاصة في ملفي اليمن وسورية.
ولا تخفى حالة انكشاف اقتصاديات الخليج على أحد، بعد لجوء جميع دول الخليج بلا استثناء إلى إصدار سندات دولية، ومعاناتها من عجز في الموازنات العامة، واتباع برامج اقتصادية تقشفية، تتوافق وتوجهات صندوق النقد الدولي.
فأكبر دولة نفطية خليجية وهي السعودية، التي تحتل المرتبة الأول في تصدير النفط على مستوى العالم، بعد عامين ونصف من أزمة انهيار أسعار النفط، تعاني من زيادة دينها العام، ليصل إلى 91 مليار دولار في أكتوبر 2016، ويتوقع له أن يتجاوز حاجز الـ 100 مليار دولار في عام 2017.
لم يكن وضع إيران بأحسن حال من دول الخليج النفطية، فثمة حالة من التعتيم عن فاتورة تمويل الحرب في سورية واليمن، ولا يغيب عن التحليل إمكانية حصول روسيا على فاتورة مشاركتها في الحرب بسورية من إيران، وإن كانت روسيا لن تفوت هذا الوضع وحصاد مكاسب اقتصادية واستراتيجية لإدارة المنطقة فيما بعد.
ومما ينبغي أخذه في الاعتبار في شأن التكلفة الاقتصادية لإيران في دخولها معترك الحرب في سورية، دعم النظام السوري مدنيًا وعسكريًا، وكذلك قوات حزب الله، فضلًا عن تكلفة قواتها بشكل مباشر، وقتل عدد من جنودها بسورية، وما يترتب على ذلك من تكلفة مادية، هي بلا شك خصمًا من مقدرات إيران الاقتصادية، التي كان يمكن توجيهها لمشروعات التنمية داخليًا.
وبقيت تركيا التي وجدت نفسها أمام مخطط استدراج متعدد الأوجه داخليًا وخارجيًا، على الصعيدين العسكري والاقتصادي، ولعل الواقع الاقتصادي سيكون الأكثر إيلامًا لتركيا خلال الفترة القادمة، وثمة شواهد على ذلك من خلال تراجع حركة السياحة الوافدة لتركيا طوال عام 2016، والتي شهدت تراجعًا قدر بنحو 30%، كما أن عملتها "الليرة" تراجعت قيمتها على مدار نوفمبر وديسمبر 2016 بنحو 25%، ومؤخرًا كشفت إحصاءات بشأن الاستثمارات الأجنبية المباشرة، تراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر لتركيا بنحو 40% خلال الفترة (يناير – نوفمبر 2016) عند مقارنتها بنفس الفترة من عام 2015.إسرائيل وتجنب الخسائر
لا تكتفي سياسة إسرائيل تجاه تدعيم موقفها كقوة اقتصادية في المنطقة على إضعاف موقف الدول العربية وإيران وتركيا اقتصاديًا، ولكن تركز بشكل كبير على استخدام قبرص واليونان كأوراق ضغط على كل من مصر وتركيا في ملفات الغاز الطبيعي والحدود المائية الإقليمية بالبحر الأبيض المتوسط.
ومنذ بداية انهيار ثورات الربيع العربي، ركزت إسرائيل على عدم دخولها في حروب، لتجنب خسائرها الاقتصادية، فلم تفتعل أية هجمات على غزة منذ عام 2012، كما أنها ضمنت أن كافة دول الجوار أصبحت لا تمثل أي تهديد اقتصادي أو سياسي أو عسكري، بعد انهيار سورية، وتدهور الاقتصاد المصري، وتوطيد علاقة مصر بدولة الكيان الصهيوني، وكذلك فعلت الأردن.
والبيانات المقارنة التي تخص المؤشرات الاقتصادية الكلية لكل من دول المنطقة ودولة الكيان الصهيوني، متاحة عند نهاية عام 2015، بشكل متكامل، بينما ما يخص عام 2016 يحتاج إلى بعض الوقت للوقوف على خريطة متكاملة، وإن كانت بيانات عام 2015 كافية لإظهار صورة إنهاك اقتصاديات دول المنطقة وتفرد الاقتصاد الإسرائيلي بتحقيق نتائج إيجابية.
والملاحظ أنه خلال السنوات الماضية، هناك حالة تراجع في أرصدة الاحتياطيات من النقد الأجنبي لكثير من الدول الصاعدة، وكذلك الدول النفطية العربية، بسبب عدم تعافي الاقتصادي العالمي بالشكل المطلوب، ومن ناحية أخرى استمرار أزمة انهيار أسعار النفط.
وفي الوقت الذي تراجعت فيه احتياطيات النقد في كافة الدول النفطية العربية، ووصوله لحالة الانهيار في مصر، نجد أن تلك الاحتياطيات قد زادت في إسرائيل لتصل في عام 2015 إلى 90.5 مليار دولار مقارنة بـ 86.1 مليار دولار في عام 2014.