أردوغان يراجع حساباته

05 يوليو 2016

أردوغان وبوتين في قمة "العشرين" في أنطاليا (15 نوفمبر/2015/الأناضول)

+ الخط -
يوجد، هذه الأيام، استغراب واسع، لدى أوساط الإسلاميين خصوصاً، بسبب التغير الجاري حالياً في السياسة الخارجية التركية. لجأت اسطنبول مجدّداً إلى تطبيع واسع النطاق مع إسرائيل، إلى جانب اعتراف صريح بالخطأ في حق موسكو، حيث تم القبول بجميع الشروط التي وضعها الرئيس فلاديمير بوتين، بما في ذلك تقديم اعتراف رسمي ومكتوب بمسؤولية تركيا في إسقاط الطائرة الروسية.
السؤال: لماذا كل هذا الاستغراب والانزعاج؟ للسياسة أحكامها وقواعدها، وعلى من يخطئ أن يراجع نفسه ويتحمل مسؤولياته، ويجدّد حساباته وتقديراته.
لم يكن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أول حاكم يحاول أن يصحح أخطاءه. وقد أخطأ عندما أذن بقصف الطائرة العسكرية الروسية. كما أخطأ عندما تمسّك بالقول إن بلاده كانت في موقف دفاع شرعي. وأخطأ عندما ظن أنه قادر على مواجهة موسكو، وأن يتعامل مع بوتين من موقع الند للند. وأخطأ عندما ظنّ بأن الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية، ستنحاز إلى جانبه، وستدافع عنه، في وجه الدب الروسي، إلى أن تقبل موسكو برفع العقوبات على تركيا.
هناك موازين قوى تتجاوز بكثير حجم تركيا ودورها في المنطقة. لهذا، بعد أشهر معدودة من الصمود في وجه سياسة لي الذراع التي اعتمد عليها الرجل القوي في الكرملين، أدرك أردوغان أنه يستند على مراهنةٍ خاسرة، وأن مصالح تركيا أصبحت مهدّدة جدياً، وأن موسكو مصرّة على الاستمرار في معاقبتها، وأن تلك العقوبات أصبحت موجعةً في ظرفٍ صعب ومعقد. وأن من شأن الاستمرار في هذه اللعبة غير المضمونة أن يؤدي ببلاده وبحزبه إلى هزةٍ قويةٍ قد تطيحه وحزب العدالة والتنمية.
في خط موازٍ، يخطئ من يذهب به الظن إلى الاعتقاد بأن تركيا يمكن أن تتخلى عن تعاونها الاستراتيجي مع إسرائيل، خصوصاً في المجال العسكري. لم تتحوّل تركيا، إلى الآن، إلى دولةٍ في حالة مواجهة مع تل أبيب، لأن مصالحها لن تسمح لها بذلك. تركيا جزء من حلف الناتو، وهي ملتزمة بذلك، بقطع النظر عن الحكومات والأحزاب المتعاقبة على السلطة في أنقرة. ربح حزب العدالة والتنمية كثيراً من مواقفه المنتقدة حكومة نتنياهو، لكن ذلك لا يعني أن قيادة هذا الحزب مستعدّة للذهاب بعيداً في هذا الشأن. هناك خطوط حمراء لا يمكن للحزب اختراقها، لأن قواعد اللعبة الدولية لا تسمح بذلك.
كما أن استمرار أنقرة في أسلوب غض الطرف عن تدفق المغامرين عبر حدودها للالتحاق بتنظيم داعش، وبتنسيق إقليمي، لم تكن سياسة ذكية، لأن الزعم بأن من شأن السعي إلى إسقاط نظام الأسد أن يبرّر كل أنوع السياسات البراغماتية، القذرة أحياناً، بما في ذلك دعم الإرهاب، وإن بشكل غير مباشر، عمل غير أخلاقي، ويمكن أن ينقلب على من يقفون وراءه.
يمر الحكم الأردوغاني بمرحلةٍ صعبةٍ ستحدّد مصيره السياسي، وهو ما جعله مضطراً لكي يحسب خطواته، وردود أفعاله بدقة. هناك أكثر من جهة تعمل على إضعافه، وتتمنى سقوطه وزواله، سواء من داخل تركيا أو من خارجها. لهذا، عندما شعر بالمخاطر تُحدق به من كل جانب، واجه أردوغان الحقيقة بكل شجاعةٍ، وقرّر اللجوء إلى الواقعية السياسية، مهما كان حجم الضريبة التي سيضطر لدفعها. وهي سياسةٌ من شأنها أن تزعج أصحاب الأيديولوجيات والمُثل، لكنها، في الوقت نفسه، قد تؤدي بأصحابها إلى التهلكة. استثمار المخزون العثماني أمر مشروع، وقد يكون جيداً، لكنه إذا زاد عن حده قد ينقلب إلى ضده. فالصعود الاقتصادي الذي حققته تركيا حتى الآن إنجازٌ مشرّف واستثنائي، لكنه يبقى هشّاً، ولا يمكن الاستناد عليه، لقلب موازين القوى الإقليمية في مقابل تأمين طموح شخصي أو حزبي.