من البعد نادتها كلمات آسرة، فيما تعبر وحيدة أحد شوارع نيويورك، ألجمها سحرها عن الحركة، فتلفتت تبحث عن صاحبها. لمحت شابا أبيض ورفيقته يتغنيان بها. اتجهت صوبهما وسألت: لمن هذه الكلمات الرائعة؟ أشارت الفتاة لرفيقها مجيبة بأنه هو ذاته كاتب الأغنية. من هذه اللحظة سمع العالم صرخة بيلي هوليداي، أسطورة غناء الجاز وصوته المدهش، الذي حمل إلينا واحدا من أجمل وجوه الثقافة الأفريقية في أميركا. سمعها وهي تحكي دامعة عن فاكهتها الغريبة، وتلك المأساة التي حاقت قرونا بذويها من ذوي الأصول الأفريقية، وسقوطهم ضحايا للعنت والاستعباد. وبشجوها الموجع كانت تستعرض أمام الإنسانية وحشية ما يجري في أميركا ضد السود، وتبين كيف بقيت العبودية حية، ترسم سيرتها بالدماء في مراعي الجنوب الأميركي وشوارعه، في وقت تروّج فيه "أرض الحرية" لنفسها وتطنطن في أصقاع العالم بوعود رئيسها السابق ولسن للشعوب المستعمرة بدنو التحرر والاستقلال. الشاب الأبيض صاحب الكلمات الذي لم يكن إلا الأديب ماركسي التوجه، ومدرس اللغة الإنجليزية في إحدى ثانويات حي برونكس الفقير، آبيل ميروبول. كان مجهولا يكتب الشعر تحت اسم مستعار، هو لويس آلان؛ اسم أراد به أن يخلد ذكرى صغيريه اللذين ماتا في المهد.
انجذب قلب بيلي أكثر لهذه الكلمات عندما عرفت أن ميروبول قد ألهمته "الفاكهة الغريبة" واقعة حقيقية لإعدام اثنين من العمال السود شنقا، ومرآهما معلقين على شجرة حور عتيقة في إحدى ولايات الجنوب. عملت معه على تطوير الكلمات ووضع لحن لها بهوية الجاز المميزة في ذلك الوقت من غناء الأفارقة الأميركيين. كانت كلمات صادمة، تجرأت بيلي على غنائها علانية في حفلاتها، ومنحتها من صوتها زخام من الحزن الشفيف، قبل أن تسجلها على أسطوانة في 1939. وكان من أثر انتشار الأغنية أن استدعي ميروبول للمثول أمام لجنة تختص بمكافحة الشيوعية في المدارس الثانوية. وخلال التحقيق أبدى المحققون استغرابهم؛ فما دخل شاب يهودي أبيض منعم مثله بحرية "السود"، ناهيك عن أن يقذف به عقله إلى الماركسية؟ سألوه عن "المؤامرة" ومن يقف وراءها، أهو الحزب الشيوعي، أم الروس؟ سخر منهم في ردوده، كما سخر منهم الزمن الذي طاف بالفاكهة الغريبة كل بقاع الولايات المتحدة، وأبقاها إلى يومنا هذا صرخة ضمير تلخص آلام السود وبؤسهم في ظل العبودية المستترة، وتدين بقاء ممارسات العنصرية والتمييز البغيضة. ولم يكن مستغربا بحال أن ألهمت بعد ثلاثة عقود من إطلاقها شباب ستينيات القرن الماضي ليشعلوا ثورة الأفارقة الأميركيين المعروفة في التاريخ باسم "حركة الحقوق المدنية"، فتغنوا بها. تقول كلمات الأغنية:
على أشجار الجنوب فاكهة غريبة/ دم يلون الأوراق ودم منسدل فوق الجذور/ أجساد سوداء تتأرجح مع نسيم الجنوب/ فاكهة غريبة تتدلى من أشجار الحور/ مشهد الجنوب بمراعيه الشجية/ وعيون منتفخة وأفواه ملوية/ عبق الماجنوليا، الحلو الطازج/ تلاحقه، إذ فجأة، رائحة اللحم المتفحم/ ههنا فاكهة تركت للغربان/ لتحز قشرتها/ تركت للمطر ليتراكم من فوقها/ للريح لتنهبها/ تركت للشمس إلى أن تتعفن/ للأشجار إلى أن تتساقط/ حصاد غريب ومرّ ههنا.
(مصر)