التغريبة المشرقية: من مستقرات عريقة إلى "قاع صفصف"؟

11 يناير 2016
وضع مأساوي في مخيم اليرموك(Getty)
+ الخط -
أربع سنوات فصلت بين صدور الطبعة الانكليزية لكتاب "اللاجئون الفلسطينيون في المشرق العربي" (2011)، بتحرير آري كنودسن وساري حنفي، وطبعته العربية (2015) بترجمة ديما الشريف. ورغم أن مُراجِع الكتاب جابر سليمان أضاف في المقدّمة العربية بعض التحديث على المعلومات وبعض التعليقات على ما حدث في الفترة الممتدة بين الطبعتين، إلا أن ماءً كثيراً، ودماً أكثر، جرى تحت جسر تلك السنوات، حيث طالت التغيّرات، بشكل غير مسبوق، جميع المشرق العربي وامتدت أبعد منه إلى ليبيا واليمن، ملقية بأسئلة إضافية وعميقة على أتون الأسئلة التي حاول الكتاب - بمؤلفيه ومحرريه – تلمّس أجوبة لها.

لعل أبرز الأحداث التي جرت بين طبعتي الكتاب في ما يتعلق بفلسطينيي المشرق الذين يتناولهم الكتاب بالبحث، هو هذا الخروج الكبير الذي طال الفلسطينيين في سورية. وهكذا، وكما يقول جابر سليمان في المقدمة؛ "تعرّض الجيلان الثاني والثالث للنكبة للتهجير الداخلي (داخل سورية) أو إلى خارج البلد الذي ولدوا وترعرعوا فيه ولم يعرفوا وطناً آخر غيره".
– هذا التغيّر الكبير سينعكس بالضرورة عند قراءتنا الكتاب على شكل جملة من الأسئلة التي تُطرح حول ماذا يعني التهجير مرة أخرى لأجيال ظنّت لبرهة أنها بدأت تندمج في مجتمعات دولها الجديدة، "على عجرها وبجرها"؟

تطرح بعض فصول الكتاب مقاربات مهمة، كفكرة "جبر الضرر" أو سياسة التأسّف في الفصل التاسع. حيث تقاربه الباحثة شهيرة سامي، كمصطلح عريض من إحقاق العدالة والإنصاف، كما تناقش أشكال جبر الضرر وتقارنها بتجارب إنسانية أخرى، كالحالتين الكورية واليابانية - الأميركية. كذلك يطرح ساري حنفي مفهومي العزل والفصل لمناقشة التركيز المكاني للخطر الاجتماعي لاقتراح مقاربة مختلفة للإدارة المحلية/ المدينية. أما آري كنودسن، فيعيد دراسة الحالة الطارئة لمخيم نهر البارد ليس فقط من خلال التركيز على التدمير والتهجير، بل من خلال إلقاء الضوء على تداعيات هذه الأزمة على العلاقات السياسية بين الفلسطينيين واللبنانيين، وكيف ألقت هذه الأزمة الضوء على إهمال الحكومات المتعاقبة محنة اللاجئين. كما قام عباس شبلاق بدراسة حالة الحرمان من الجنسية، التجربة التي عاناها الفلسطينيون في المنفى أكثر من أي أمر آخر، وعرّضتهم لكل الممارسات التمييزية في الدول العربية المضيفة.

مراتب للجوء الفلسطيني

ورغم التحليل العميق في معظم فصول الكتاب للمادة المدروسة، إلا أن التركيز والأمثلة ودراسة الحالات دارت حول فلسطينيي لبنان، إن جاز القول، فستة فصول من الكتاب المؤلف من اثني عشر فصلاً، كانت مادّتها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، أو مخيماتهم، أو دراسة علاقات القربى (وهي بالمناسبة دراسة أنثربولوجية شديدة الأهمية والمتعة في آن، قام بها الباحث سيلفان بيرديغون). وفي حين نال فلسطينيو اللجوء في الضفة والقطاع بعض الاهتمام من البحث والأمثلة، فإن لاجئي الأردن وبدرجة اقل بكثير لاجئي سورية، حظوا بأقل فأقل من البحث المعمّق. وعدا المعلومة التي تواترت بكثرة في الكتاب حول "خصوصية وضع اللاجئين في سورية والتسامح الاقتصادي والاجتماعي الذي وفّرته لهم السلطات السورية"، فلا توجد أية دراسة في الكتاب - باستثناء الدراسة المهمّة حول "إدارة المخيمات: مخيم اليرموك مثالاً"، لساري حنفي - تجادل أن كيف تأتّى أن تكون هذه الحالة السورية خاصة، ولماذا؟ وما تأثير هذا على وضع اللجوء في سورية؟ وكيف لم يتغيّر الأمر باتجاه حقوق مدنية وسياسية أكبر؟ وما هي الأسباب التي حدت أن يكون مخيم اليرموك بالذات هو المخيم الذي تعرّض لأكبر تدمير خلال الحرب السورية الحالية؟ أما حين يصل الأمر إلى السؤال عن لاجئي مصر ودول الخليج، فالكتاب لا يذكر سوى سطر هنا أو جملة هناك. علماً بأن اللاجئين الفلسطينيين في مصر كانوا قد تمتعوا بمعظم الحقوق الرئيسية حتى عام 1978، حين قام فلسطيني باغتيال الكاتب المصري يوسف السباعي، الذي كان صديقاً مقرّباً من الرئيس المصري أنور السادات.
وحينئذ، قامت الحكومة المصرية بإلغاء جميع الحقوق التي مُنحت للفلسطينيين سابقاً.

يحصر الكتاب مقاربته بشكل كبير ضمن ما سمّاه مناطق الأونروا الخمس (لبنان والأردن وسورية والضفة والقطاع) – وفي الوقت الذي يسمح هذا التحديد بالنظر في دور الأونروا، "كحارس غير مقصود لحق العودة، - كما أورد جلال الحسيني وريكاردو بوكو في فصلهما المعنون بـ"ديناميات المساعدة الإنسانية"، فإنه يسمح أيضاً بالتفكير - تداعياً - في بقية وكالات الأمم المتحدة وتقييم دورها في أزمات سياسية مشابهة أو مقاربة، حيث يحضر هنا المثال المهمّ الذي ورد في الكتاب حول "لجنة الأمم المتحدة للتوفيق في شأن فلسطين" (UNCCP)، وهي الهيئة السياسية التي أنشئت بموجب القرار 194 في العام 1948 ثم "أصبحت جسماً هامداً على الرغم من أنه لم ينتهِ التفويض لهذه اللجنة قط"، كما يرد في الفصل الثامن من الكتاب. إلا أن هذه التحديد في مناطق الأونروا الخمس جعل من المناطق الأخرى، حتى التي ضمّتها الوكالة الدولية لاحقاً، كالعراق وليبيا والكويت، خارج مجال البحث.


ما مستقبل المستقرّات المشرقية؟

لا يمكن التوقف أثناء قراءة الكتاب عن التفكير بالمآلات التي وصل إليها سكان المشرق العربي في السنوات الخمس الماضية. فالتغيّرات الديمغرافية غير المسبوقة التي طالت مستقرّات جغرافية عريقة، ألقت وستلقي بظلال عميقة على مستقبل المنطقة. ولعل مصير فلسطينيي سورية، على سبيل المثال، يشكل فصلاً تراجيدياً بالغ القسوة لهذا الشعب المنكوب. حيث يطرح الخروج الفلسطيني القسري الثاني من سورية، إشكاليات جديدة لم تكن مطروحة حتى في الخروج الأول، وذلك بسبب تزايد الحدود المغلقة في وجوههم والإعادة القسرية لهم من دول الجوار. فالأردن ولبنان والعراق يرفضون دخول الفلسطينيين إلى بلدانهم ويفرضون شروطاً قاسية على من دخل منهم. وفي حين طلب محمود عباس، الرئيس الفسطيني، من الأمم المتحدة الضغط على إسرائيل للسماح للمهجّرين الفلسطينيين من سورية بدخول الضفة والقطاع، إلا أن الرد الإسرائيلي جاء بالرفض: "فإسرائيل لا ترغب أن يتم إغراقها بالمهجرين"، كما ورد على لسان رئيس وزارئها بنيامين نتنياهو. والحال ذاته في مصر، فالتقديرات لعدد هؤلاء اللاجئين الفلسطينيين تراوح ما بين 7 آلاف إلى 11 ألفًا. يتمّ التمييز ضدهم بطريقة سافرة. فمن جهة ترفض مصر تدخل الأونروا لمساعدتهم، بحجة عدم رغبتها في إنشاء مخيمات فلسطينية على أراضيها. وفي الوقت ذاته لا تقوم المفوضية بتسجيلهم لديها أو بتقديم المعونة لهم، كما هو الحال مع اللاجئين السوريين، وذلك بحجة أنهم لاجئو أونروا – يخرجون عن نطاق صلاحياتها. ومثل السوريين ونتيجة الأوضاع المزرية، والتحريض الإعلامي على الفلسطينيين بادعاء مساندة حماس وجماعة الإخوان في مصر، لجأ كثير من اللاجئين الفلسطينيين المتواجدين في مصر إلى المغادرة مرة أخرى بطرق غير قانونية.

وليست حال الفلسطينيين الذين لم يغادروا سورية بأفضل. فالـ15 ألف شخص، المتبقين من قاطني مخيم اليرموك في ضواحي دمشق، من أصل 250 ألف فلسطيني وسوري كانوا من سكّانه، يعيشون في ظروف لا يمكن وصفها بالبشرية على الإطلاق، بين سندان النظام السوري وحلفائه الذين يقصفون المخيم يومياً بشتى أنواع الأسلحة، ومطرقة داعش، حيث يسيطر مقاتلوه المتشدّدون على أطراف منه، مكملين الخراب والدمار بتطرف ووحشية. والحال ذاته، أو شبيه له، في مخيمات النيرب وحندرات في حلب أو غيرها من المدن السورية التي تتعرّض للتدمير.
ربما كان ينقص الكتاب فصل عن الدروس المستفادة Lessons learned في وقت تتكرر فيه تجارب الهجرة القسرية وتزداد مأساوية، من الفلسطينية فالعراقية فالسورية وقريباً اليمينية، وسواها من الدول المنكوبة في هذا المشرق العربي الذي لا يكاد يلتقط أنفاساً متعثّرة باستعمار واحتلال، ليقع في استبداد وطني وتوحّش متطرف. ولا يهرب من جحيم مستوطن إلا ليقع في أتون عنصري أو متطرف أو قاتل.

اقرأ أيضًا : حلب، تسع قصائد



المساهمون