صلاح مصباح: في تونس لدينا تقاليد في صناعة اللاشيء

16 نوفمبر 2015
المطرب التونسي صلاح مصباح
+ الخط -
لقّب الفنان التونسي صلاح مصباح بالجوهرة السمراء. هو صاحب الصوت القوي، والجهوري والشجي، الذي اختار اللون الصعب في الغناء؛ فقد غنى في دار الأوبرا بمصر، وغنى في لبنان وسورية، أي في أكثر البلاد العربية تذوقًا للطرب العربي. 

إلا أن "الرياح الموسيقية" في تونس، لو جاز التعبير، لا تميل كما يبدو لإبداع مصباح، ولعلّ طغيان موسيقى الراب، يحمل في طياته أمرًا مجهولًا. لا يتردد مصباح في حواره مع "ملحق الثقافة" في وصف الزمن الحالي بـ "الزمن الرديء الذي يعدّ بدوره نتاجًا وإفرازًا من إفرازات الآلة الإعلامية الخطيرة التي تهيمن على الذوق العام وتوجهه. يمكن الجزم بوجود أزمة سياسة ثقافية في البلاد في الوقت الحالي، أسوق هنا كمثال لأشهر وجه على الساحة السياسية اليوم في تونس، الشيخ راشد الغنوشي الذي يرأس أهم حزب سياسي فاعل اليوم "حركة النهضة"، عندما سئل عن نوعية الفن الذي يحبذ الاستماع إليه، ذكر موسيقى الراب التي أحيا أبرز روّادها حفلات الحزب". و يتابع قائلًا : "أنا بصدد تفجير الثورة التي بداخلي ضد هذه الرداءة وهذا العالم المجنون المدمن على استهلاكها. لقد دخلت في خصومات مع الجميع، سافر المحيّا، وتمت عرقلة مسيرتي الإبداعية : جمدتني حركة النهضة كما سبق أن حاربني بن علي وزوجته ليلى. لكني على يقين من أن الكتاب الصادق الإبداعي سيُقرأ يومًا".

وإن بدا صلاح مصباح مغاليًا في انتقاده لموسيقى الراب، كان لا بدّ من سؤاله عمّا يفضّل موسيقيًا، فأجاب :"أنا أؤمن بتلاقح الأذواق الموسيقية والثقافات، وأرى في ذلك عمليتي توليد وتواصل رائعين، كما أوقن بأن الإنتاج الجميل ينجح وينفذ إلى الوجدان بمختلف أنماطه ومرجعياته. غير أني أرجح أنه، عند توفر كفاءات يتم تدريبها على الوجه الصحيح، فستكون لديها القدرة حتمًا على إنتاج أعمال فنية رائعة برؤية ومضمون جديدين، وعندها ما من داع، من وجهة نظري بالطبع، إلى اللجوء إلى بضاعة الآخر والسطو عليها".

يختلف هذا المطرب التونسي عن غيره من المطربين، على الأقل من ناحية ربطه لواقع الإبداع في تونس بالسياسة، إذ يقول :"ما يعوق الإبداع في تونس هو الإعلام المرتشي. إعلاميون يتعسفون علنًا ولا شيء يحمي المبدع منهم. الغرب لديه منظمات حقوق الحيوان، وفي تونس لا نهتم بحقوق الفنان ولا المبدع ولا حتى حقوق الإنسان عمومًا. يشيد الكثيرون بأعمال لطفي بوشناق، الذي بدأ دستوريًا في زمن بورقيبة، وتحول تجمعيًا مع بن علي، ليصبح يساريًا بعد الثورة، في حين أنه نتاج لسلطة الجهل في البلاد. في هذا البلد لدينا تقاليد في صناعة اللاشيء.

لا يعني ذلك أن تونس خالية من المبدعين، إذ ثمة في العديد منهم كالملحن والموسيقار عبد الكريم صحابو مثلًا، بعضهم لم يحالفه الحظ وآخرون، أمام الضغط الموجود، خُيّروا بين الانسحاب والانزواء بعيدًا عن الأضواء. حتى اليسار ليس بريئًا مما أصاب الساحة الفنية من انهيار، ودوره حاليًا ليس إيجابيًا على أكثر من صعيد".

وربما كانت جرأة مصباح في الربط بين الفنّ والسياسة، السبب الرئيس لـ "إقصائه" عن الساحة، إلا أنه تبين من خلال حواره مع "ملحق الثقافة"، وجود أمر آخر: "لجأت إلى الجميع لأستفسر عن سبب رفع البطاقة الحمراء أمام إبداعاتي، بدءاً من مدير الإذاعة الوطنية والنقابة والأمين العام للاتحاد التونسي للشغل. ما من أحد قبل الإصغاء إلي. فما هو المطلوب مني فعله لأتمكن من الغناء في بلدي وألقى فيها حق قدري".

لن يبقى السؤال معلّقًا، إذ يظهر أن لون بشرة مصباح كان عاملًا قويًا في شعوره بالتمييز العنصري، يفسّر المطرب التونسي ذلك : "لطالما شكّل التمييز العنصري قضية اجتماعية. بيد أنه غدا اليوم مسألة سياسية إذ أصبحت الدولة تتبناه. شخصيًا لم أرد يومًا التطرق إلى هذا الموضوع، ولم أثره بتاتًا من تلقاء نفسي. لكنهم كلّما قاموا باستضافتي، يتعمدون إثارة الموضوع ويجرونني إلى التحدث فيه.

اذكري لي أحدًا مارس العنصرية يوما على يهودي، أو حتى يفكر في أن يعتدي عليه في الطريق العام؟ لا أحد يجرؤ على ذلك، فوراء اليهود ماردٌ يقصف الجميع من دون رحمة. للأسف، أجل في تونس نعاني من عنصرية اللون، لديك في جزيرة جربة مثلًا، مقبرة للبيض ومقبرة للسود، كما توجد أيضًا حافلة للسود وحافلة للبيض.

بسبب لوني اتفق المُنشطون لئلا تتم استضافتي إلا عند الضرورة، بل أكثر من ذلك، أتلفت أعمالي الفنية من الأرشيف العام للإذاعة والتلفزيون. وجاءني أحد المنشطين ليخبرني بأن زملاءه اتفقوا على عدم بث أعمال "الوصيف"، ويقصدونني بذلك بحكم لوني. قد أنفعل قليلًا لكني لا أكترث للأمر، لأن المشكلة في العمق تبقى ثقافية بالأساس. إلا أنه حين يمارس مثقف أو قيادي في حزب، الشيء نفسه معي، ويعتدي علي بالطريقة نفسها متعللًا بمحاربة الإرهاب، أليس هذا الإرهاب بعينه؟"

يتجنب صلاح مصباح التركيز على شخصه في قضية اللون، لذا يسهب في رصدها في المجتمع التونسي :"الظاهرة لا تقف عند حدود المناصب الحكومية، أسمعت البتة بقاضٍ أسود؟ وقد سبق وتمت إزاحة مقدّم رياضي جيد بسبب لونه. لم يكن هذا المنطق موجودًا في عهد بورقيبة، رغم كل النقائص التي يشكو منها نظامه، إذ تبوأ في عهده العديد من الشخصيات من ذوي البشرة السمراء، مسؤوليات مهمة وصلت إلى حد تولي منصب إدارة المخابرات العامة للدولة، كذلك كان من بينهم والدي الذي أنشأ الشركة التونسية العقارية، وقام بترميم المساجد وأشرف على أشغال ترميم قصر رقادة. وتغيرت النظرة بظهور عائلة الطرابلسي، التي فتحت الأبواب على مصراعيها أمام الممارسات العنصرية. يشعر المواطنون التونسيون من ذوي اللون الأسمر بكثير من الضيم. هذه حقيقة لا يستطيع أحد طمسها أو نكرانها". لكنه يستدرك بعد ذلك: "عندما أجبر عن الحديث عن التمييز العنصري، لا أقصد من وراء ذلك تعميم الظاهرة على كل التونسيين. يؤلمني رغم كل ما أعانيه أن أشهّر ببلادي وبشعبي".
المساهمون