أُسدل الستار على ورشة البحرين بعد يومين متواصلين من انعقادها في المنامة، دون إصدار بيان ختامي. اُختتم المؤتمر لكن تبعاته لم تنته والأهم مستقبل مخرجاته، وهو ما اقتضى استحضار مجموعة دلالات وقراءات في جدية مخرجات المؤتمر وإمكانية تنفيذها وتمريرها، لا سيما عقب مجموعة التصريحات التي صدرت عن مستشار البيت الأبيض جاريد كوشنر في افتتاح المؤتمر وفي نهايته، ففي اللحظة الأخيرة للمؤتمر خرج كوشنر بتصريح ظاهره إطلاق النار على السلطة الفلسطينية لكن المسكوت عنه أن كوشنير يُقر بفشل المؤتمر ومخرجاته عندما اتهم "القيادة الفلسطينية بالفشل في مساعدة شعبها".
يعود كوشنر مرة أخرى ليُحمل الفلسطينيين مآلات المؤتمر ويراهن عليهم رغم رفضهم جميعا- سلطة وفصائل- للمؤتمر جملة وتفصيلاً في دلالة تعني أن هناك إدراكاً أميركياً بأنه لا يمكن تجاوز الفلسطينيين وبقدرتهم على التعطيل؛ لكن ذلك يعني أن المحاولة مستمرة وأنه ربما تكون هناك عودة مرة أخرى؛ إذ يقول كوشنر للصحافيين الذين التقاهم نهاية المؤتمر: "الباب لا يزال مفتوحا أمام الفلسطينيين للانضمام إلى خطة التسوية الأميركية، لو أرادوا فعلا تحسين حياة شعبهم، فإننا وضعنا إطار عمل عظيما يستطيعون الانخراط فيه ومحاولة تحقيقه".
دلالة أخرى يمكن قراءتها في مخرجات مؤتمر البحرين وعلى لسان كوشنر أيضا إذ لم يتشابه ولم يتقاطع الخطاب الذي ألقاه كوشنر نهاية مؤتمر البحرين مع خطابه الأول عندما افتتح المؤتمر؛ ففي أول تصريح له وعد كوشنر الحضور بأن عليهم أن "يتخيلوا واقعا جديدا للشرق الأوسط". وقال في كلمته الافتتاحية: "ورشة البحرين ليست صفقة القرن بل فرصة القرن"، مضيفاً أن "الاتفاق على مسار اقتصادي شرط ضروري للسلام". وقال: "نحن نريد السلام للفلسطينيين والإسرائيليين". وكأن ربع قرن من عمر اتفاق أوسلو ونتائجه لم تكن كافية.
انتهى المؤتمر دون أن يتطرق تمامًا إلى حقوق الفلسطينيين ولا أوضاعهم تحت الاحتلال الإسرائيلي. واكتفى كوشنر بإطلاق سيل من "الوعود المعسولة" للفلسطينيين والمنطقة بشأن المستقبل والتنمية والازدهار، بينما أغفل تمامًا حقوق الفلسطينيين الكثيرة، لاسيما إقامة دولة كاملة السيادة، عاصمتها القدس الشرقية المحتلة، وعودة ملايين اللاجئين.
دلالة أخرى حملتها ثنايا ومخرجات اليوم الثاني والنهائي لمؤتمر البحرين وهي سطحية وثانوية القضايا التي نوقشت مثل مناقشة قضايا التنمية والاستثمار لصالح الشعب الفلسطيني لتحقيق الازدهار الاقتصادي وتنويع الفرص، وتطوير أنظمة الرعاية الصحية وإفساح المجال أمام الفرص الاقتصادية في المجتمعات المحلية، ثم مناقشة تطوير القوى العاملة وتمكين المرأة والتواصل مع الشباب لمواجهة البطالة المرتفعة، أو وصف المرأة بأنها السلاح السري للقوة العاملة كما جاء على لسان كريستين لاغارد المديرة العامة لصندوق النقد الدولي.
دلالة سطحية أخرى تُفضي إليها مخرجات مؤتمر البحرين الذي يعد الفلسطينيين باستثمارات وليس مساعدات وإعانات قيمتها 50 مليار دولار لصالحهم ولإيجاد مليون فرصة عمل، تمتد هذه الوعود وفق الخطة ليتم تنفيذها على عشرة أعوام وفق ما ذكر البيت الأبيض، وبإجراء عملية حسابية تفضي لنتائج أن كل عام سيحصل الفلسطينيون على 5 مليارات دولار فقط، يفترض بها أن تنمي اقتصادهم وتوفر لهم فرص عمل وبنية تحتية وتنهي البطالة وتحل كل مشكلاتهم للحد الذي يجعلهم يعفون الاحتلال من واجباته والتزاماته. لقد أسقط المجتمعون في المنامة السبب الرئيس والوحيد للتحديات والظروف والأوضاع الفلسطينية التي يناقشونها وهو الاحتلال الإسرائيلي الذي أُسقط تماماً من حساباتهم.
الحكم بفشل مخرجات مؤتمر المنامة بل فشل المؤتمر بمكوناته من الأصل لم يرتبط بانتهاء المؤتمر ولم يكن قراءة فلسطينية أو عربية فقط أو لأن المؤتمر أسقط الاستحقاقات السياسية والحقوق الفلسطينية، فصحيفة "ذا غارديان" البريطانية قررت وحكمت بفشل المؤتمر قبل انتهائه؛ فعلى وقع اليوم الثاني للمؤتمر خصصت الصحيفة افتتاحيتها للحديث عن ورشة البحرين، وتقول الافتتاحية: "هذه مسرحية غاب عنها نجومها ونصف الممثلين أيضا، فالدول العربية التي شاركت أرسلت ممثلين من الدرجة الثانية، بل إن الشخص الذي يقف وراءها، وهو صهر الرئيس ترامب، جاريد كوشنر، تحدث عن ورشة عمل بدلا من مؤتمر، ورؤية وليس خطة".
تذهب مخرجات مؤتمر البحرين إلى اختصار القضية الفلسطينية من قضية تحرير وقضية سياسية إلى مجرد حلول اقتصادية وهو ما تمت تجربته من قبل طول ربع قرن من عمر اتفاق أوسلو، و الأهم أن مخرجات المؤتمر تُظهر وجود فجوة كبيرة وعميقة بين الواقع والوهم إذا يُريد المشاركون إنهاء سبعة عقود من الصراع من خلال مشروع السلام مقابل الازدهار، رغم أنهم جربوا من قبل السلام مقابل الأرض وفشل بل إنهم جربوا أيضا السلام مقابل الأمن وفشل هو الآخر في إنهاء الصراع أو حله؛ فهل تنجح خطة اقتصادية صغيرة مرهونة يقودها كوشنير بتمويل عربي مبتور في تسوية الصراع الممتد بل والمرشح في ظل المتغيرات الإقليمية والمحلية والممارسات الإسرائيلية ليتمدد بل ربما لا يجد الشعب الفلسطيني خيارا آخر إلا الاشتباك ورفع تكلفة الاحتلال بعدما بات مجانيا، ليقوم - الاحتلال- بمنع تزويد محطة الكهرباء بغزة بالسولار على وقع اليوم الثاني لمؤتمر البحرين، فكيف يقول مؤتمر البحرين بتحسين الوضع الاقتصادي للشعب الفلسطيني وتقوم إسرائيل بحرمانه من أبسط حقوقه في الكهرباء وهي مدفوعة الثمن لإسرائيل بالمناسبة.
يظن كوشنر أنه يمكن تمرير خطته بتجاوز الفلسطينيين ودون حضورهم أو إشراكهم ويعيب عليهم تغيبهم؛ ويريد المشاركون في مؤتمر البحرين نجاح مخرجاته والجميع يستهدف إبدال الحقوق الأساسية والسياسية للقضية الفلسطينية بالمحفزات الاقتصادية القائمة على الوهم والتدليس، في ذات الوقت الذي تحتفظ به الذاكرة الجمعية الفلسطينية إجراءات إدارة ترامب ضدهم باقترابه من إسرائيل عموما ونتنياهو على الخصوص، ثم الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ويستحضرون إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن تلك المنظمة التي اعترفت بإسرائيل وغيرت ميثاقها ووقعت اتفاق سلام برعاية ووساطة أميركية؛ فجاء ترامب ليغلق مقرها نهائيا، ثم يجمد التمويل الأميركي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ويهددهم بإغلاقها وإنهاء حق العودة وتوطين اللاجئين. ثم يريد منهم الحضور إلى المنامة!
يعد كوشنر الفلسطينيين في نهاية مؤتمر البحرين بحياة أفضل وشرق أوسط جديد لكنه على ما يبدو أسقط من ذاكرته تصريحه مطلع هذا الشهر عندما شكك في قدرة الفلسطينيين على حكم أنفسهم ويريد منهم الموافقة على مخرجات مؤتمر البحرين وأن الباب أمامهم مازال مفتوحاً، في الوقت الذي يذكرهم ويهددهم السفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان، "أن من حق إسرائيل ضم أجزاء من الضفة الغربية".
لم تقتصر مخرجات مؤتمر البحرين على سوء فهم وتقدير أميركي فقط لكن الشركاء العرب في المؤتمر أيضا عكست كلماتهم وتصريحاتهم في نهاية المؤتمر سوء فهم وتقدير وسطحية في التعاطي والتموضع في وهم الازدهار، وهو ما عكسته مثلا تصريحات وزير المالية السعودي محمد الجدعان بقوله: إن القضية الفلسطينية "مهمة للغاية" للمملكة، مشيراً إلى أن بلاده ستدعم "كل ما يجلب الازدهار لهذه المنطقة". ويقول الوزير السعودي إن "المنطقة بحاجة ماسة إلى الازدهار والأمل" وكأن الازدهار وحل القضية الفلسطينية لا يتم إلا عبر بوابة التطبيع مع إسرائيل وبقيادة كوشنير!
دلالة أخرى على القراءة العربية يقدمها وزير الدولة الإماراتي للشؤون المالية عبيد حميد الطاير في نهاية المؤتمر قائلا: "إنه يجب على المنظمات الدولية دعم هذه الخطة للتقليل من المخاطر". ويبدو أن الوزير لا يعلم عن وقف واشنطن تمويلها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين أو ربما يعلم لكنه لا يُفصح عن تلك المخاطر التي يريد من المنظمات الدولية التقليل منها؛ ربما يظن الوزير أن مؤتمر البحرين هو من أجل تقليل التلوث المناخي! ويتفرد وزير خارجية البحرين خالد بن أحمد آل خليفة، بتخصيص تصريحاته للصحافة الإسرائيلية ويقول: "إن إسرائيل موجودة وباقية ونريد السلام معها وعلى الجميع أن يدعم بحزم حق إسرائيل في الوجود". لكنه يسقط الحقوق الفلسطينية!
قراءة أخيرة غاية في الأهمية يقدمها تسفي بارئيل في صحيفة "هآرتس" العبرية عن وقائع مؤتمر البحرين ومخرجاته ويقول "الاحتجاجات ضد عقد المؤتمر الاقتصادي في البحرين، التي ملأت الشبكات الاجتماعية العربية، أوضحت مرة أخرى الفجوة التي توجد بين قرارات الزعماء العرب وبين الشعوب العربية".