ماري كلير فغالي: الصليب الأحمر يسلّم بمأساة اليمنيّين

06 مايو 2015
لدينا ما يكفي للاستجابة، شرط ألا تطول الأزمة كثيراً
+ الخط -

على وقع قصف الغارات وأزيز رصاص المضادات، كان حديث خاص لـ"العربي الجديد" مع المتحدّثة باسم اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر في اليمن ماري كلير فغالي. في تلك الليلة، كان مطار صنعاء المدني يتعرّض لقصف مركّز، ولم يبقَ فيه مدرج سالم حتى تتمكّن من مغادرة البلاد. هي اليوم تنهي مهمّتها في اليمن، بعد عامَين كاملين شهدت في خلالهما كلّ اضطرابات تلك الفترة.

- بداية، ما هي آخر أرقام الجرحى والقتلى والنازحين؟
نحن كصليب أحمر لا نملك أرقاماً. بخصوص الجرحى والقتلى، إحصاؤهم غير ممكن. تصلنا أرقام وزارتَي الداخلية والصحة والمنظمات. لكن ليس لأي منها تواجد كافٍ في كل المناطق. لا يوجد مندوبون عن كل وزارة في كل المستشفيات. العدد يتغيّر كل 15 دقيقة. كذلك، بعض الأطراف لا تصرّح عن جرحاها الذين يتلقون العلاج في مستشفيات صغيرة.
من جهة أخرى، ثمّة جثث في عدن على الطرقات، تدفن من دون التعرّف إليها أو حتى الإبلاغ عنها. تدفن حتى لا تبقى على الطرقات. لذا لا يمكن معرفة عدد الأشخاص الذين قتلوا، ومن هو المدني ومن هو المقاتل.
مهما كان الرقم الذي يصرَّح به اليوم، نحن نعتقد بأن العدد في الواقع أكبر.

- ما هي مهمة اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر في اليمن اليوم؟
نحن نعمل على مشاريع لتخفيف آثار النزاعات والحروب. وضربات التحالف ما هي إلا واحدة من مجموعة نزاعات قائمة في البلاد. اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر موجودة في اليمن منذ عام 1962. مهمتها في الأساس هي العمل في مناطق تشهد نزاعات وحروباً. لنا هنا مكاتب في أربع مناطق، اثنان في العاصمة صنعاء وفي عدن وتعز وصعدة. أما عدد الموظفين من أجانب ويمنيّين فهو 250 موظفاً، 50 أجنبياً و200 يمني، ولدينا فريق دعم في جيبوتي يضمّ ما بين 20 و30 شخصاً.

- ماذا عن عدن، حيث الأوضاع جدّ سيئة؟
في عدن، ثمّة مشكلة كبيرة. المأساة الأكبر هناك، إذ المعارك محتدمة على الأرض أيضاً. قبل ثلاثة أسابيع، استقدمنا فريقاً طبياً جراحياً متخصصاً بجراحات الحروب، فاضطر أعضاؤه إلى السفر بحراً من جيبوتي في رحلة استمرّت أكثر من عشر ساعات. كان الهدف معالجة الجرحى في المستشفى الجمهوري الذي يستقبل أكبر عدد منهم. أجروا عمليات جراحيّة وعالجوا نحو 800 جريح.
في يوم، استهدفت خزانات مياه المستشفى من قبل قناصين، فقرّر مسلحون من الطرف الآخر الردّ من داخل المستشفى. لا يمكن تخيّل حالة الهلع التي سادت حينها. راح المرضى يخرجون من المستشفى وهم يحملون أمصالهم. خافوا من أن يقتلهم المسلحون الذين احتلوا المكان. كان المشهد مؤلماً جداً. وفي حين نقل بعض الخاضعين إلى عمليات جراحيّة إلى مستشفى آخر قريب، عاد الآخرون إلى بيوتهم على الرغم من حاجتهم إلى العلاج.
وعندما فرغ المستشفى من المرضى والطاقم الطبي اليمني، تركنا بدورنا. فقد أصبح خط نار. في الأيام التالية، وصل جرحى إلى المستشفى وماتوا هناك، إذ ما من أحد لمعالجتهم.

- وماذا حلّ بفريقكم؟
فريق الصليب الأحمر العامل هناك، استقرّ بداية في المكتب، فالمنزل يقع في خور مكسر حيث تشتدّ المعارك. لكن سرعان ما غادر المكتب إذ احتدمت الاشتباكات هناك أيضاً.
اليوم فريقنا مهجّر، ويستقرّ أعضاؤه مع أعضاء فريق أطباء بلا حدود في أحد المستشفيات. هم عاجزون عن مغادرته.
ونحاول الاتصال بجميع الأطراف لمطالبتها بتحييد المستشفى الجمهوري، إذ بحسب القانون الدولي الإنساني الذي يطبّق في هذه الحالات، يمنع إطلاق النار على مستشفى. وهذا المستشفى، لديه القدرة الأكبر على الاستيعاب، وهو كان يعالج جرحى لجميع الأطراف من دون استثناء.

- نستطيع القول هنا إنكم مهدّدون؟
لسنا مهدّدين. الجميع هنا يعرف اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر. كل من يحمل السلاح في هذا البلد يعرفنا. هم إما استفادوا من برامجنا أو كان تنسيق في ما بيننا. وهم أيضاً يعرفون طريقة عملنا. نحن المنظمة الإنسانية الوحيدة القادرة على التنقّل اليوم في كل المناطق من دون تهديد.
على سبيل المثال، مساجين تنظيم "القاعدة" في غوانتنامو معظمهم من اليمن. الصليب الأحمر يزورهم هناك في إطار برنامج "إعادة الروابط العائلية"، فيتواصلون مع أهلهم من خلال اتصالات فيديو.
لكن يبقى أنه أحياناً، نصل إلى حاجز في آخر مأرب أو عدن مثلاً، فيوقفنا المسلح ونعجز عن العبور.
نحن كلجنة دولية للصليب الأحمر لسنا معرّضين للخطر أكثر من غيرنا. نحن محميون بالقانون الدولي الإنساني، فاستهدافنا يُعدّ جريمة حرب تماماً كما استهداف المستشفيات والهلال الأحمر اليمني ومسعفيه. بالتالي، يمكن القول إننا محميّون لأنهم يعرفوننا وبسبب القانون، لغاية الآن.

- هل تعرّضتم لإصابات في طاقمكم؟
لم يصب أي من أعضاء اللجنة الدولية بأذى. لكن الموظفين اليمنيّين العاملين معنا، هجّر قسم كبير منهم، وأصبحوا نازحين. هم كانوا يعيشون في مناطق قريبة مما يُعدّ "أهدافاً عسكرية". والذين يسكنون بالقرب من المطار مثلاً، كلهم تركوا بيوتهم.
وعندما وقعت ضربة فج عطان في قلب صنعاء، سقط من جرّاء الغارة 90 قتيلاً و780 جريحاً. كان الأمر أشبه بهزّة أرضيّة. كنا في المكتب، لم ينفجر الزجاج فقط، بل اهتزّ المكان فينا لقوّة الضربة. ومن بين زملائنا من تضرّرت بيوتهم، ومن خسروا أقارب لهم.
لكن الهلال الأحمر اليمني خسر ثلاثة من مسعفيه المتطوعين. هو شريك عمل لنا في اليمن، من ضمن الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر. هؤلاء ماتوا قنصاً. واحد في منطقة الضالع بينما كان يجلي جريحاً، واثنان شقيقان في عدن. كانا أيضاً يجليان جرحى هناك.

- مع أي من المنظمات تنسّقون، غير الهلال الأحمر اليمني؟ كنتِ تحدثتِ عن أطباء بلا حدود...
يجري التنسيق بيننا وبين أطباء بلا حدود حتى لا نعمل في المناطق نفسها. ونحن نعمل أيضاً كمراقبين مع منظمة الأمم المتحدة، من دون أن نكون من ضمنها.
نحن نملك تفويضاً مختلفاً عن تفويضات الجهات الأخرى. تفويضنا كلجنة دولية هو خاص، لحماية المدنيّين في النزاعات والحروب. كل الدول الموقّعة على اتفاقيات جنيف، ملزمة بمكان ما بالسماح للصليب الأحمر بالعمل على أراضيها. هذا تفويض.
ننسّق مع المنظمات الأخرى، حتى لا نكرّر النشاطات، لكننا لا نعمل على المشاريع نفسها. نحن مثلاً لا نعمل على مكافحة الفقر، لكننا نعمل مع العائلات المتضررة من النزاعات، مثلاً مزارعي النحل الذين تهجروا. ندعمهم للعودة وإعادة بناء بيوتهم.

- أنتم وأطباء بلا حدود فقط تعملون على الأرض. هل هذا كافٍ؟
كلا. هذا ليس كافياً. لا نستطيع وحدنا تغطية كل المأساة الحاصلة هنا. ما يجري اليوم هو مأساة بكل معايير المأساة. لا كهرباء، والبلاد في الأساس من دون مياه. وعندما تنقطع الكهرباء، يعجزون عن ضخّ المياه. ولأن كل الطرقات المؤدية إلى اليمن، البريّة والبحريّة والجويّة، مقفلة، فلا مجال لإدخال الفيول. تجدر الإشارة أيضاً إلى أن اليمن يستورد 90% من المواد الغذائية التي يحتاج إليها، بالتالي ثمّة نقص في الغذاء.
كذلك لا مجال لإدخال الأدوية الخاصة بالأمراض المزمنة. نحن تمكنا من إدخال أدوية، لكنها فقط لمعالجة إصابات الحروب. هي ليست للسكري ولا للسرطان ولا لغسل الكلى وغيرها.

- في الفترة الأخيرة، قبل قصف مطار صنعاء المدني، تلقيتم شحنتَين من المواد...
صحيح، تمكنا من إدخال خمسين طناً من الإمدادات في الأسبوعَين الأخيرَين، لم نتمكن من توزيعها كلها. من جهة المعارك لا تتوقف، ومن جهة أخرى لا يُسمح لنا بالدخول إلى مناطق معيّنة. 90% من الشحنتَين هي مساعدات طبيّة جراحيّة من أدوية وأدوات تضميد وأمصال أدوية لمعالجة الحروق. تلك فقط لمعالجة جرحى الحرب، فنحن مثلاً لم نحضر أي لقاحات. الأمر يحتاج إلى تخصص.
كذلك، أحضرنا مولدات كهرباء للمستشفيات وخيماً وقساطل لإصلاح شبكات المياه.

- كم من الوقت تكفيكم، خصوصاً أن ما من طريقة لإدخال مساعدات أخرى بعد ضرب المطار؟
لا أعرف. المعدات التي لدينا تكفي لمعالجة ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف و500 جريح. لدينا مخزون أيضاً، لكن عندما أصبحت الحاجة كبيرة، أحضرنا تلك الأطنان الخمسين. مع الإشارة إلى أن لا أحد كان يتوقع الضربات الجويّة ولا إغلاق كل المنافذ البحريّة والبريّة والجويّة. يمكن القول إنّ ما لدينا يكفي لنستجيب إلى الطلبات، شرط ألا تطول الأزمة كثيراً.

- وماذا بخصوص توصيل المساعدات إلى المناطق؟
قبل أن تتأزّم الأوضاع في عدن، حاولنا كثيراً قبل أن نتمكن من الدخول وتسليم المعدات. الوضع هناك مأساوي. لكننا منعنا من دخول مأرب، وكذلك الضالع وأبين. في صعدة، نزح الناس بغالبيتهم.
يمكن القول إن النظام الصحي في البلاد ينهار، من دون أن نتحدث عن النازحين وعن نقص الغذاء والكهرباء وعن السيارات التي لا تتحرّك لعدم توفر محروقات. مع الإشارة إلى أن المواد الغذائية التي ما زالت متوفرة، ارتفعت أسعارها كثيراً. في الأساس البلد فقير جداً، الناس لا تملك ما تدفعه ثمناً لغذائها.
نحن قادرون على الاستجابة لعشرين ألف عائلة فقط، لجهة تأمين الغذاء على المديين القريب والمتوسط. لكننا لا نستطيع تغطية كل الحاجات الإنسانيّة. هذا أمر مستحيل.

- تتحدّثين عن النازحين. كيف تتعاطون مع هؤلاء؟
نحن نستجيب بحسب الحاجة. ليس لدينا حل واحد جاهز لكل الحالات. ثمّة عائلات بحاجة إلى طعام وخيم وغيرها، وثمّة أخرى تحتاج فقط إلى طعام. نحن نقصد العائلات لمعرفة المنطقة التي نزحوا منها وعدد أفرادها وما خسروه وما الذي يحتاجون إليه.
إلى ذلك، في الفترة الأولى كانت الغارات في الليل. وكانت عائلات كثيرة تترك منازلها مساءً لتعود إليها في الصباح. هذا أيضاً نزوح. لكن لا يمكن التعاطي معه بالطريقة نفسها التي نعتمدها مع الذين دمّرت منازلهم كلياً ولجأوا إلى منازل عائلات أخرى أو سكنوا في خيم. نحن نحاول فهم طريقة النزوح وأسبابه في البداية، لكن من الصعب إحصاء الكل. يجب البحث عن هؤلاء الذين سكنوا مع آخرين. وفي هذه الحال، من غير الممكن مساعدة العائلة النازحة فقط، بل أيضاً تلك التي استضافتها. الاثنتان تتعرّضان للضغط.
هذا في صنعاء. أما في عدن مثلاً، فالناس محتجزون ومرعوبون. هم غير قادرين على النزوح. لا يستطيعون حتى ترك منازلهم والخروج إلى الشارع. المعارك مستمرة من جهة، ومن جهة أخرى ثمة قنص. الأمر كذلك بالنسبة إلى تعز.
إلى ذلك، لا يمكن الوصول إلى مأرب والضالع. وثمّة مناطق مثل صعدة تركها أهلها، لكننا لا نعرف إلى أين توجهوا. تجدر الإشارة إلى أن مكتبنا في الصومال يحاول أيضاً المساعدة، من خلال متابعة الذين لجأوا إلى هناك.

- يُحكى عن اختفاء أشخاص اليوم...
اليوم ثمّة توقيفات عشوائية لمئات الأشخاص، وأهلهم لا يعرفون أين هم. نحن نعمل أيضاً مع قضيّة اختفاء الأشخاص. بالإضافة إلى الأشخاص الذين يقتلون، ثمّة آخرون يُفقدون بعد توقيفهم. نحن نسعى إلى زيارة المساجين عند كل الأطراف، في محاولة لمنع الإخفاء القسري. عند العمل في مناطق النزاعات، نبادر أولاً إلى زيارة الأشخاص المحرومين من الحرية، كما ندعوهم. وذلك لنتأكد من أن عائلاتهم تعرف مكان وجودهم، من ثم للتأكد من أنهم يعاملون بحسب القوانين ولا يتعرّضون للتعذيب.

عالقة في صنعاء


عندما تسأل ماري كلير فغالي (35 عاماً) "كيف يبدأ نهارك وكيف ينتهي؟"، تجيب سريعاً: "لا ينتهي حتى يبدأ من جديد". اليوم في السادس من مايو/أيار، كان من المفترض أن تنتهي مهمّتها في اليمن رسمياً. لكنها لا تعرف متى ستتمكّن من مغادرة البلاد، بعد قصف المطار المدني في صنعاء. وتشدّد على أن الخطر الذي يتهددهم هو رصاصة طائشة، أي أن "نكون في المكان الخاطئ في الوقت الخاطئ. نحن نعمل على الاستجابة الإنسانيّة وبحياديّة مطلقة، لذا الخطر غير مباشر علينا".