يوميّات الحرب في غزّة (26)

يوميّات الحرب في غزّة (26)

23 ديسمبر 2023
دخان يتصاعد في أثناء انفجارات قصف إسرائيلي في حي الرمال في غزّة (21/12/2023/Getty)
+ الخط -

يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.

(17 ديسمبر)
الصور التي تصل من الشمال، خصوصا من جباليا، مؤلمة. كل شيء في هذه الحرب مؤلم، ولكن صور الشهداء متعفّنة في الأزقة والشوارع، وصور القطط والكلاب وهي تنهش جثامين الشهداء في منطقة مستشفى كمال عدوان شمالي المخيّم أمرٌ لا يمكن تصديقه. الشهداء متروكون ليواجهوا مصيرَهم وحدهم، حتى بعد موتهم. الكلّ يخذلهم في حياتهم وفي مماتهم. لا أحد ليدفنهم، ولا أحد يقدر على دفنهم. يسير الجيش فوق جثامينهم في الشوارع، ويستمتع الجندي وهو يمشي فوق جباههم العالية، وفوق أذرعهم التي غرفت من تراب الأرض، ونثرته في السماء أحلاماً ستصل إلى مبتغاها، والدبّابات تواصل سيرَها تمزّق الأجساد وتهشّمها والقطط تنهشها. أي قسوة تلك، وأي زمن هذا، وأي مصيرٍ نسير إليه! المزيد من الألم والمزيد من المعاناة والمزيد من الاستغاثات المكتومة التي لا تصل، لأن لا أحد يسمع، ولا أحد يقدر على تحمّل ما يسمعه. الأحبّة هناك، وأخيلة الماضي هناك، وظلال الأحلام هناك، وبريق الأماني هناك. تفكّر فيمن تحبّ، وتفكر أن الله لا بد أن يكون رحيماً، حتى يدفع بهم إلى مصيرٍ مثل هذا، وتفكّر أن قسوة الحرب، رغم ذلك، تجاوزت كل حدود، وأنها لم تترُك للمنطق حيّزاً، وتفكّر أنك كلما فكّرت شعرت بالجنون، لأنك عاجز عن التفكير في أي شيءٍ يمكن أن تفعله للحدّ من ذلك. 
هل علينا أن نعاني كل هذا الألم حتى نكون صالحين، وحتى نقدر على الوقوف على عتبات الرضا؟ ألسنا طيبين بطبعنا؟ ألم يأخذ الألم حصّته من أجسادنا، ومن راحتنا ومن عمرنا ومن مستقبلنا ومن ذكرياتنا؟ ألمٌ يحتلّ حياتنا، ولم يترك لنا فيها إلا ابتسامات فرحٍ مسروقة، نتراجع عنها حين تطول، ونقول "الله يستر". تنهشنا القطط الجائعة، وتمزّق أعضاء أحبّتنا، وتأكل الكلاب الوجوه التي كنا نعانقها، والأيدي التي كانت تُشعرنا بالدفء والصدور التي كانت تحضّننا بألفة العالم وطيبة القدّيسين؟ هل يُعقل أن يكون هذا مصير شهدائنا، فنُحرم من خاطرة استذكار وجوههم الباشّة وعيونهم الغافية على أحلام النصر وبشارات العودة؟

رجل أمام مبنى مدمر
عجوز يسير أمام حطام مبنى دمّره قصفٌ إسرائيلي في رفح (21/12/2023/الأناضول)

في الطريق، كان السائق ينادي "دير دير"، يقصد دير البلح. نظرتُ إلى ياسر، ففهم أنني أقترح أن نذهب إلى دير البلح لزيارة عمّته عيشة. هزّ رأسه موافقاً. في اللحظة الأخيرة، تراجعت، وقلت له إن علينا أن نفكّر في الأمر جيداً، قبل أن نُقدم عليه. واقترحتُ أن نخطّط ربما غداً أو بعد غد للذهاب. كنتُ أفكّر في الذهاب هناك، والسهر معهم والمبيت عند صديقي الصحافي أحمد سعيد كما وعدتُه. وكان هذا وعداً معلقاً، لم أفِ به منذ ثلاثة أسابيع، حين نمت عند سعيد الصفطاوي. ولكن الأمر، بالنسبة لياسر كان "تغيير جو"، فقد ملّ وزهق الروتين الذي تسير فيه حياتنا هنا، فنحن لا نفعل شيئاً. نصحو من النوم، ثم نذهب إلى مقرّ الهلال الأحمر في خربة العدس، وهو ذهاب مؤلم ومرهق، حيث نركب سياراتٍ لا تشبه السيارات في أحيانٍ كثيرة. وقلما كنا محظوظين، ووجدنا باصاً أو سيارة لائقة، ثم نجلس هناك حتى آخر المساء وقبل الليل، ثم نعود أدراجنا إلى وسط البلد، حتى نركب سيّارة أو شبه سيّارة، ونعود إلى منطقة المخيّم. نسير قليلاً في الشوارع، قبل أن نصل إلى الخيمة. نعمل هناك طعامنا بعد أن نوقد النار، ثم نشرب الشاي مع الشباب، ونجلس في خيمتنا نسهر ساعة أو اثنتين، قبل أن يأتي موعد النوم. روتين يسير برتابة الطقوس ودقّة التفاصيل. 
يقول الشاب في الغرفة لي إنه جاء من دير البلح، لأسأله والفكرة ما زالت تعتمل في عقلي، إن كانت الطريق آمنة. ابتسم، وقال إن الشباب، يقصد متطوّعي الهلال الأحمر، سيذهبون الآن، ويمكن لي أن أذهب معهم. قلت ربما في يوم آخر. واصل حديثه بالقول إن الناس هناك تذهب إلى البحر، وإن هناك صيادين يبيعون أسماكاً طازجة. بالنسبة لي، قد تبدو هذه مزحة. قال: لا بل هي حقيقة. حتى بعض الناس تسبح في البحر، ولكن بعد السادسة مساءً، الكل يذهب إلى البيت، فلا يوجدون في منطقة البحر. يشبه مخيّم دير البلح مخيم الشاطئ، فهو ملاصقٌ تماماً للبحر، وبيوته تقع مباشرة على الشارع الضيق الذي يفصل موج البحر عن عتباتها. بدت الفكرة مغرية، أن أذهب إلى هناك، وأزور عيشة، وربما أشتري بعض السمك، وأبيت عند أحمد سعيد وأعود. وقتٌ مستقطعٌ من روتين الحياة في المخيّم الكبير في رفح. 
واصل الشاب حديثه بالقول إن هذا لا يجب أن يكون مُستغرَباً. يقصد دهشتي من حقيقة أن الناس تذهب إلى البحر، فالناس في رفح أيضاً تذهب إلى البحر في منطقة المواصي. بل يركض بعضهم على الشاطئ، ويتريّض هناك ويسبَح. لم يذكُر شيئاً عن السمك، فمن الواضح أن الأمر هنا في رفح يقتصر على السباحة والتريّض. نظرتُ إلى ياسر الذي تشجّع أكثر للفكرة، وهو يلعب على هاتفه الجوّال إحدى الألعاب الإلكترونية.

تمرّ الحرب، ونحن الذين ننتظر أن نمرّ ونتجاوزها، ونحيا من دونها، لأننا نريدُ لعمرنا أن يكون مُلكاً لنا، لا شريك لنا به

تمرّ الحرب، وتمرّ الأيام، ويمرّ العمر، ونحن نُحصي حياتنا بعدد الغارات التي نجوْنا منها، وبعدد الانفجارات التي مررْنا بجوارها، وبعدد ما أخطأنا الموت، وبعدد من مات منّا ومن فقدنا ومن تركنا خلفنا في دربٍ لا نرى له نهاية. تمرّ الحرب، وتعبُر بنا الشهور، وتأخذ من عمرنا ما تشتهي من جمال وبهاء، وتترُك لنا الألم والوجع، ولا تأبه كثيراً بما نحسّ، وبما نفكّر أو بما يخطرُ على بالنا من أحلام تركناها في سلّة الماضي، ولم نعُد نتذكّرها إلا أطيافا غائمة أمام عيوننا الباكية من الوجع. تمرّ الحرب، ونحن الذين ننتظر أن نمرّ ونتجاوزها، ونحيا من دونها، لأننا نريدُ لعمرنا أن يكون مُلكاً لنا، لا شريك لنا به. 
تتصاعد الحربُ في الجنوب كل ليلةٍ، نسمع المزيد من القصف والاستهدافات. في الليل، خصوصا بعد منتصف الليل، سمعنا عشرات الضربات في المنطقة الشرقية. كان صوت الانفجار يأتي من بعيد، ويُمكن لنا أن نخمّن أنه من جهة خانيونس التي تتصاعد فيها العملية يوماً بعد آخر، بموازاة مواصلة الحرب الشرسة على جباليا والشّجاعية. ومع ذلك، ما زالت الحركة بين رفح وخانيونس مستمرّة، ويمكن أن توجد سيّاراتٌ تنقل بينهما. سألتُ الشاب الذي أخبرني عن دير البلح عن ذلك، فقال إن طريق البحر ما زالت مفتوحة، ويتحرّك من خلالها الناس في النهار. قذيفة تسقُط قرب مستشفى ناصر ولا تنفجر. قلق على صديقي مأمون الذي لم أتمكّن منذ أكثر من أسبوعين من التواصل معه. بيتهم في قلب المخيّم، وأي استهدافٍ للمخيّم أو دخول فيه سيكون خطراً دائماً عليه، وعلى عائلته التي احتضنتني أياما بعد خروجي من الشمال. الحديث عن خانيونس يوماً بعد آخر يتطوّر في الإعلام، والمعركة القادمة بعد الانتهاء بشكل نهائي من الشمال، وغزّة ستكون هناك. وبعد بشاعة ما جرى في غزّة والشمال، يمكن أن تتوقع شكل ما سيجري هناك. ما يجري الآن تسخينٌ تدريجيٌّ ومواصلة الاشتباك حتى اللحظة الحاسمة ربما في المستقبل القريب. تتحدّث التقارير الإسرائيلية عن معركةٍ قد تستمرّ شهرين هناك، وهذا يعني مزيدا من المذابح، ومع المجازر والضحايا. 
يتحدّث الشباب، في الغرفة في الهلال، عن أشياء كثيرة. المؤكّد أننا متروكون وحدنا. شعور صعب، خصوصا حين يتواصل نزف الدماء وزهق الأرواح وتدمير المكان. الصليب الأحمر الذي كان من المفترض أن يكون آخر من يترك المدنيين كان أول من أخلى مكتبه في شارع الشهداء في الرمال. شاهدتُ سياراتهم وهي تغادر في الأسبوع الثاني للحرب، قبل أن يطلب الجيش حتى من المواطنين ترك غزّة والشمال. هربوا وأخذوا معهم موظفّيهم المحليين وعوائلهم. وفيما مهمتهم في القانون الدولي حماية المدنيين وقت الحروب، فإنهم تركوا المدنيين للجيش، حتى يواصل قتلهم، وتوجّهوا جنوباً. كنتُ في بيت الصحافة، حين سمعت جلبة في الشارع. كان الوقت باكراً. قال لي بلال إن الصليب الأحمر يُخلي مكاتبه. تقول الناس إنهم ذاهبون إلى الجنوب، وتحديداً إلى دير البلح. الصليب الأحمر الذي كان يجب أن يكون مع الناس يهرُب وتركهم. وأيضا، تركت منظمات الأمم المتحدة الناس وتركت غزّة وذهبت إلى رفح من البداية، كأنهم ينفذون فقط ما يطلبه الجيش منهم. لا يحمون الآخرين، ولا يقومون بواجباتهم، يتلقون فقط رواتبهم ويبحثون عن النجاة. طبعا، لا أحد يطلب من أحد أن يموت في سبيل أي شيء، ولكن على الأقل أن يقوموا بعملهم، فعمل المنظمات الدولية ليس إغاثويا. يوضح الشاب في الغرفة أنهم حتى رفضوا إدخال المساعدات إلى غزّة والشمال بعد انتهاء الهدنة، لأن الجيش لم يسمح بذلك. 

أطفال
أطفال حول خيامهم المؤقتة في رفح (21/12/2023/الأناضول)

وما يزيد الطين بلة عدم وجود صحافيين في غزّة والشمال، رغم تعرّضهما لمزيد من القصف والمذابح والتدمير، فالصحافيون أيضاً تركوا الجنوب مع الناس، ولم يبق إلا بعض المواطنين الذين تحوّلوا صحافيين من خلال استخدام هواتفهم الجوالة الشخصية ومراسلة بعض الفضائيات. ورغم ما يقومون به، وهو كبير، لأنه على الأقل لا يترك المنطقة بدون أخبار، لكنه غير كافٍ. شعور الخذلان والتهميش وتركنا للمجهول أمر مؤلم. الآن أفكّر في والدي وفي إخوتي وفي كل من نحبّ، وأنا أستمع للنقاش القلق الذي يدور حولي في الغرفة، فيما صوت انفجار بعيد يشدّ عيوننا نحو النافذة الشرقية، قبل أن نواصل نقاشنا الذي ستكون خاتمته: لقد تركنا وحيدين. 
المزيد من القصف، وتتسرّب أخبار من الشمال عن الاستهدافات، ومعظمها ينقلها الناس عبر الرسائل التي يرسلونها إلى أهلهم في الخارج. الحديث عن 60 شهيداً في الغارات على شمال غزّة منذ الصباح. الأخبار أمرٌ غريب. غزّة مخبز أخبار ساخنة كما كتبتُ مرّة. تخرُج منها أقراص الأخبار التي تفتح شهية وكالات الأنباء والفضائيات. أتذكّر صديقي الذي قال لي مرّة، ونحن نقف فوق بناية شوا حصري في الرمال في بداية الانتفاضة الثانية "تخيّل لو أن صاروخاً سقط الآن وأنا أحمل كاميرتي وأصور مباشرا على تلك البناية". وأشار إلى بناية عالية أظنّها عمارنة الزهارنة في شارع الجلاء. كان يفكّر في "إكسلوسف" غير آبهٍ بحقيقة أن هذا الحلم سيعني موت عشرات من المواطنين الأبرياء. خلال الانتفاضة الثانية، كتبت مجموعة من المشاهدات، نشرتها في مجلتي الشعراء وأقواس، وكان هاجس نقل الأخبار هو السائد، حيث شهدت غزّة، في ذلك الوقت، صعود وكالة رامتان الشهيرة التي عملت فيها أقلّ من عام في بداية تأسيسها. كانت غزّة مصنع الأخبار الأهم ربما. ولم تتوقّف، منذ ذلك الوقت، عن تزويد الوكالات بالأخبار الدسمة عن القتل والتدمير، وعن عدم الاستقرار السياسي. انتهت "رامتان" وتراجعت مكانتها أكبر مصدر للأخبار من غزّة، لكن غزّة لم تتوقف عن إغرائها في أنها تقدّم دائماً ما يغري المراسلين. ومع الوقت، اختفى المراسلون الأجانب، ولم يبق في غزّة إلا من يقوم بأعمالهم نيابة عنهم من الصحافيين المحليين. الملاحظ، مثلاً، أنه لم يكن هناك، لحظة وقوع الحرب، أي صحافي أجنبي في البلاد. لا أحد في غزّة تقريباً منهم. ربما حقيقة أن الحرب اندلعت فجأة من دون سابق إنذار، ومن دون تصعيد تدريجي، يمكن أن يفسّر ذلك. ولكن ألم يوجد لو مصادفة صحافي يعدّ تقريرا عاديا من غزّة؟ هذا يقول الكثير عن الكيفية التي ينظر فيها الإعلام إلى غزّة، فهي مصنع لأخبار الموت، وليست الأخبار العادية ولا حتى السياسية. ورغم مطالبتنا المتكرّرة بالسماح بدخول الصحافيين الأجانب، حتى يتم فضح ممارسات الاحتلال، إلا أن دولة الاحتلال تمتنع وترفض، وتعتبر عدم وجودهم ميزة، فهي تقتل كل يوم صحافي تقريباً ولا أحد ينتبه، ولا أحد ينتقد، حتى بات مقتل الصحافيين أمراً عادياً لكثرة تكرار وقوعه.

الكلّ يبحث عن النجاة في زمنٍ يُقصدر فيه الموت بين أنفاس الناس، ويأخذ منهم من يشاء من دون تردّد

أنظر من النافذة إلى الحقول الخضراء في خربة العدس، خلف مقرّ الهلال الأحمر. بدت الشمسُ قوية هذا الصباح، وتواصل إرسال أشعّتها وتغوي بغفوةٍ سريعة. المزارع منهمكٌ في ريّ مزروعاته. حدّقت ملياً. كانت تلك شجيرات باذنجان وبندورة. الخضار لم تنقطع عن الناس، بسبب هؤلاء المزارعين الذين يتحمّلون الألم في سبيل أن يظلّ السوق عامراً، رغم ارتفاع الأسعار غير المبرّر. سربٌ من الطيور يحلق في السماء، كأنه يستحمّ بأشعة الشمس. يمكن أن يكون هذا نهارا عاديا جداً في ظروفٍ عادية جداً، نهار يقف فيه رجلٌ مثلي قرب النافذة يتأمّل حقولا خضراء، فيما مُزارعٌ يقوم بعمله اليومي قبل المغرب بقليل، برشّ مزروعاته بالماء، والطيور ترفرف في السماء، والرجل منشغلٌ بالتفكير بجمال الطبيعة وقوة حضور الأشجار والخضار في عينيه الناعسة من شدّة أشعة الشمس التي تذهب تدريجياً صوب الغرب. صورة عادية ومشهد عادي، لكن كل ما يجري ليس عادياً، وكل ما يشاهده ليس عادياً. ففي وقت الحرب، ليس عادياً جداً أن تكون مثل هذه المشاهد موجودة، لأن الكلّ يبحث عن النجاة في زمنٍ يُقصدر فيه الموت بين أنفاس الناس، ويأخذ منهم من يشاء من دون تردّد. لا شيء عاديا، ولا حتى تلك القطط والكلاب التي تأكل أجساد من نحبّ، ولا جهلنا بمصير من تركنا خلفنا ولا عجزنا عن الصراخ حتّى. 

(18 ديسمبر)
تجلس المرأة الشابّة على أطراف أصابع قدمها، تحاول أن تتماسك فيما الشاحنة تعلو وهي تعبُر فوق "مطبّ كبير"، تُمسك بابنتها الصغيرة، وتعدها أنها حين تعود إلى الشمال، ستشتري لها الشوكولاتة التي تحبّها. الطفلة لا تفهم أنه لا يوجد شوكولاتة هنا، وأن مليار دولار لا يمكن أن تشتري حبّة شوكولاتة واحدة، فهي غير موجودة وغير متوفّرة، فتقول الطفلة بدها "حبّة واحدة". أي شيء من الشوكولاتة يكفي. وتقول الأمّ الشابة إنها قريباً حين تعود إلى الشمال ستشتري لها أفضل حبّة شوكولاتة. تذكّرت سرد أحمد دحبور عن أمنيات أمّه المعلّقة على العودة إلى حيفا، حيث يمكن للطفل الذي صار شاعراً كبيراً أن تتحقق كل أمانيه. الطفل الذي يفقتد كل شيء، حين يطلبه من أمّه تعده أنهم حين يعودون إلى حيفا سيناله. تغسل المرأة الشابّة قلق طفلتها وبكاءها بالوعود، وتقول لها إن كل شيء سيكون أجمل في المستقبل، حين يعودون إلى الشمال. "كل له حيفاه" يقول أحمد دحبور الذي نعم بأن صرخ صرخته الأولى في حيفا، وتنفّس أنفاسه الأولى من نسيم الكرمل. 

شاب
يبكي لفقد أحد أقاربه في خانيونس (22/12/2023/Getty)

كانت النسوة يجلسن في نصف عربة الشاحنة الخلفية، وكنّا الرجال نجلس في النصف الآخر. كانت المرأة الشابّة تجلس بقربي، فيما النسوة الأخريات اللائي صعدن إلى الشاحنة، يلملمن بعض الجرأة، ليبدأن حديثاً اقتصر في أول الطريق عليهن، ثم ما لبث حتى شارك رجالٌ ونساءٌ فيه. قالت المرأة الشابّة إن ما يجري معها حلم. في المساء، تناولت عشاءها مع زوجها وأطفالها، ثم تسامروا قليلاً، ثم ناموا، وفي الصبح كان عليهم أن يحملوا ما يستطيعون من متاع، ويبحثوا عن مكانٍ يؤويهم من شدّة القصف، فالجزء الخلفي للبيت تهدّم، وكادوا يموتون تحت الأنقاض. فجأة انقلبت حياتهم رأساً على عقب. رأيتُ الدمعة تتسلّل من عينها. لم تستطع مقاومة موجة البكاء الصامت، فأخذت تداعب شعر ابنتها بيديها، وهي تحاول أن تُخفي وجهها خلف رأس الطفلة. تمالكت نفسها قليلاً، وسألتها إن كانت تريد زيارة جدّتها، فالجدّة تشتاق للطفلة كما قالت الأم. الجدّة تقيم في مدرسة في مخيم يبنا في رفح. بدلاً من الشوكولاتة، ستحظى الطفلة بضمّة وقبلات من الجدّة. قالت المرأة الأربعينية إنها حين تعود إلى الشمال ستنام في الشارع أمام بيتها المهدّم. "قرفت" حياة النزوح هنا في رفح. وكانت هذه إشارات مبطّنة لنقد ما تعيشه، وللمعاملة التي تلقاها هنا. دار جدلٌ طويلٌ عن الواقع والسياسة والحرب والتّجار والآمال والألم والثمن، والنتيجة والغد المنتظر. كنت أضع رأسي بين يديّ، وأنا أجلس القرفصاء كأنني أعدّ عدد دروان عجلات الشاحنة، حتى نصل، وتنتهي معاناة ركوب الشاحنة. في الصباح، انتظرت "أبو رياض"، حتى يقلّني بسيارة الهلال، ولكن عجل السيارة أصيب بـ"بنشر"، فلم يتمكّن من القدوم، فكان علي أن أكافح ساعة وأكثر من أجل أن أجد سيارة تقلني إلى وسط البلد، ومن هناك أجد سيارة أخرى تحملني إلى مدخل خربة العدس، حيث أسير ربع ساعة حتى أصل، وهذا حظ كبير. 
زارني، مساء أمس، وزير الأشغال العامة والمواصلات، الدكتور محمد زيارة، الذي قرّر مثلي، في البداية، أن يبقى في غزّة، ولا يغادر مع من غادر حين اندلعت الحرب. ابتسم، وقال: ماذا تقول في القرار بعد أكثر من 70 يوماً. يقصد قرارَنا بالبقاء. قلت له: الإنسان قضية، وطالما قرّرنا فنحن انحزنا ضمنا لقناعاتنا. ... هزّ رأسَه موافقاً. ربما كان سيصير قرارُنا مختلفاً في سياقات أخرى. لكن من حيث ما قمنا به كان صائباً. شربنا القهوة التي فرحنا بوجودها، وأكلنا حبات التمر، وهو يقول ربما بعد أيام نشربها في مكان آخر. هل سيزداد الأمر سوءاً؟ لا أحد يعرف، ولكن المؤكّد، كما قلت له، إنه لن يحدث لنا أسوأ مما عشنا، ولن نمر بأصعب مما خبرنا. عموماً، قال لي، إننا قد نخرج إلى مصر في الأيام المقبلة، كما أبلغته جهاتٌ حكومية، لأن هناك عملا لنا في الحكومة علينا إنجازه. كل ما في الأمر أننا قد نخرج من غزة من أجل مواصلة عملنا في الحكومة، وقد نعود ضمن وفد وزاري بعد فترة قصيرة من مغادرتنا. ابتسمت وقلت: الإنسان قضية والحياة موقف. 

القنّاصة منتشرون في كل مكان، والناس تسقط بسهولة أمام رصاصهم الذي يأتي من أماكن لا يعرفونها

بعد أن انتشرت صورةٌ لي أمام خيمتي، وأنا أحضّر الشاي على النار، على مواقع التواصل الاجتماعي، اتصل بي عشرات من الأصدقاء في كل مناطق جنوب وادي غزّة يعرضون عليّ شققاً لأقيم فيها وبيوتاً لأنتقل إليها، وكانت إجابتي واحدة، إنني اضطُررتُ للانتقال من الشمال إلى الجنوب، مثل مئات آلاف المواطنين الذين أنتسب لهم، ومنهم إخوتي وأخواتي وأبناء عمّي وأصدقاء الطفولة وأبناء حارتي ومخيّمي. لذلك سأعيش معهم، لأن هذا هو الوضع الطبيعي الذي يكون فيه الفرد مع جماعته. بالطبع، يرغب المرء بقليل من الراحة، وقد تغريه الحياة ليستكين للقليل من المتع، أو ربما أقلّ الألم أفضل من وجوده بكثرة، وربما المبيت في غرفة على سريرٍ في شقةٍ فيها ماء، وربما طاقة شمسية وإنترنت، وما إلى ذلك مما قد يبدو مغرياً. وفي نهاية الأمر، أنا بتّ نازحاً، وتحرّكت مع آلاف الآخرين من الأهل والجيران، وأنا أقيم معهم الآن، وهذا وضع طبيعي بشكل كامل. 
هاتفني صديقي هيثم الوحيدي الذي أخبرني أنه يقيم مع والدي في مركز تموين جباليا، التابع لوكالة الغوث. يقيم أخي خليل معهم في المركز نفسه. انتقل هيثم إلى مركز التموين، بعد أن قصفت الدبّابات بيت أخته في شارع حارتنا الذي كان هو وعائلته وعوائل إخوته قد نزحوا إليه من تلّ الزعتر، بعد استهداف بيتهم والبيوت المجاورة. قال لي إنهم اضطرّوا للتوجه إلى مركز التموين، والدبابات تصوّب مدافعها عليهم، والجنود يهدّدونهم بالقتل. سألتُه عن والدي فأخبرني أنه عانى آخر يومين، بسبب عدم وجود "البخّاخة" التي تساعده على التنفّس. لا يوجد صيدليات، ولا مراكز صحية، يمكن إحضار البخّاخة منها. قال إنه أمضى ساعات هو وخليل أخي يساعدانه على التنفس من خلال تحريك الهواء أمام وجهه. هل يوجد طريقة يمكن تأمين البخّاخة فيها؟ سألت. قال: لا يوجد لأن الصيدليات مغلقة، وربما نزح أصحابها أيضاً أو استشهدوا. لا أحد يعرف. كل ما يمكن فعله، كما قال هيثم، أنه سيعتني به هو وخليل، وسيتأكدان أنه لن يختنق فجأة. لم أتمكّن من الحديث مع والدي، لأن هيثم حين هاتفني كان يتمشّى في الشارع قرب مركز التموين. الوضع كيف؟ سألت. قال إنه أفضل من قبل. ما زال صعباً، لكن الأصعب مرّ. لم يعد شيء في المخيم. تحوّل كل شيء إلى خراب ودمار. يتحرّك الموجودون في المخيّم وفق تعليمات الجيش ووفق حركة آلياته. الآن، لأكثر من أسبوع، يقيم هيثم وآلافٌ آخرون في مركز تموين الوكالة. القنّاصة منتشرون في كل مكان، والناس تسقط بسهولة أمام رصاصهم الذي يأتي من أماكن لا يعرفونها. قبل يومين، استُشهد أحد أقربائي وهو يسير في الشارع قرب منطقة الفاخورة. قالوا إن قنّاصاً قتله. وأمس قُتل قريب آخر لنا في منطقة النصر أيضاً. سألتُ الشباب: كيف؟ لا أحد يعرف. فقط وجدوه مضرجاً بدمائه بعد أن استهدفه قنّاص ربما. الناس تموت بدون سبب وبدون تفسير، لأن القاتل لا يأبه لذلك كله. 

طفلة
طفلة تلعب بالكرة بين أنقاض مبانٍ دمرها قصف إسرائيلي في رفح (21/12/2023 الأناضول)

اتّفقتُ مع هيثم أنه سيحاول أن يهاتفني في المساء، حين يعود إلى مركز التموين، حتى أتحدّث مع والدي. فكّرت في أن والدي إن لم يتلقّ علاجه الذي ضاع جله تحت حطام البيت المهدّم قد ينتكس صحياً. سألت الدكتور بشّار إذا كان ثمّة وسيلة طبّية يمكن توفير الدواء له هناك في جباليا. قال إن العمل الصحّي في الشمال متوقف تقريباً. لا يوجد أي خدمة، ولا أحد يقدّم خدمة هناك. الحل الوحيد أن يحاول الشباب أن يفتحوا إحدى الصيدليات المغلقة. لكن المشكلة أنهم لن يعرفوا كيف يصرفون الدواء، لأنك، في نهاية المطاف، بحاجة لصيدلاني أو طبيب. هكذا يبدو الوضع في مناطق الشمال وغزة، حيث السكّان متروكون بلا خدمة من أي نوع. لا توجد خدمة صحية، أيضاً إلى جانب ذلك، لا يوجد أي نوع آخر من الخدمات. لا ماء ولا مجاري ولا كهرباء ولا أسواق ولا شيء. الحياة قائمة بحدّ ذاتها، لأنها غير موجودة تقريباً. لا تجد الناس الطحين، ولا تأكل الخبز. أنت ونصيبُك كما قال لي هيثم. الدنيا حظ والحظ قليل، والقليل منه إن كان متوفّراً كثير بالنسبة لما يعانيه الناس. أما من هم في مخيّمات النزوح، فإن ما يعانونه لا يقلّ إلحاحاً فهم أيضاً تقريباً لا يوجد لديهم أي نوع من الخدمات الصحية، ولا أحد يقدّم لهم شيئاً غير كوبونات الإغاثة.
تزداد المشكلات الطبية في مخيمات النزوح، بسبب التكدّس الكبير في مراكز الإيواء، بجانب غياب كثير من مقوّمات الحياة الكريمة والنظافة، وبالتالي، انتشار فيروسات ومايكروبات تهدّد حياة كثيرين منهم، خصوصا ضعيفي المناعة وحديثي الولادة. سجّلت الطواقم الطبية انتشار عدة أوبئة سيكون عدم مواجهتها خطراً على حياة النازحين، وعلى الصحة العامة. وفي ظل غياب العيادات وعدم كفاءة المستشفيات، بسبب الضغط الشديد عليها، الوضع مرشّح للتدهور بشكل أكبر. كما يعاني كثيرون من ضعف التغذية، في ظلّ شحّ الإمكانات والموارد، ما ينتح عنه تفاقم ما يعانون منه من أمراض. لا يجد كثيرون من أصحاب الأمراض المزمنة أي عناية، ولم يعد كثيرون منهم يتلقى علاجه الثابت والدائم، كما أن المستشفيات لم تعُد قادرة على مواصلة خدمة غسل الكلى، مثلاً، مما يرشّح عدد من سيموتون قريباً إلى الارتفاع بسبب عدم تلقّي الخدمة الطبية اللازمة. كان الإعلامي الشاب يتحدّث لإحدى الفضائيات عبر الهاتف، يشرح أن الوضع الصحي في غزّة حرب مختلفة، يموت ضحيتها المئات، بسبب عدم توفّر الخدمة. ففي مخيّمات النزوح، لا يوجد أي خدمة صحية، والناس تتعرّض للأمراض التي عليهم مواجهتها وحدهم من دون أي عناية أو متابعة من أحد. إذا مرض شخصٌ، فمن الصعب أن يتحسّن، إذ عليه أن ينتظر "فرج" ربنا في أن يشفى، لأنه لن يجد أي دواء يتناوله.
تجوّلت، في الصباح، مع سهيل التلولي و"قدّوم" أبو جراد ساعتين في المخيم داخل براكسات الوكالة. اشتقتُ لسهيل. ذهبت ليلة أمس لزيارته فلم أجده. في الصباح، وحين عرفت أن أبو رياض لن يأتي بسيارة الهلال، ذهبت لزيارة سهيل. كان يجلس على كرسي بلاستيكي أمام البركس الذي وضع فيه خيمته. مشينا حول البراكسات، في الطريق، قابلنا "قدّوم" فسار معنا. كانت تلك القصدورات تعيدنا قليلاً إلى العالم الذي كنّا نعيش فيه، لتلك القصدورات التي كنّا نقوم بها في المخيم. قلت لسهيل "لا بيت لنا ولا بيت لكم". وكنت أقصد أن بيتينا في المخيم تم قصفهما. كان يتكئ على عكّازه الخشبي، وقد بدا عليه الوهن. كلنا نشيخ مبكّراً في الحرب. قبل الحرب بأسابيع، بلغت الخمسين، أما سهيل فقد تجاوز الستين. يمرّ العمر علينا أسرع مما نتوقّع. كلنا نبدو شيوخاً طاعنين في الحرب، فهي تأخذ رحيق عمرنا، وتتركنا هزيلين. وعدتُه أن أمرّ عليه في المساء. قال لي إن فرج ما زال مريضاً. حين يمسك الواحد منا المرض هنا لا يتركه بسهولة. سرتُ في الدرب الخارج من المخيّم باتجاه الحي السعودي، حيث سأواصل طريقي باتجاه تلّ السلطان، حتى أجد سيارة تقلّني إلى وسط المدينة. كل مرة أقوم بها بتلك الرحلة، أشعر حقيقة ببؤس حالنا وصعوبة مآلنا.

قضايا وناس
التحديثات الحية

المساهمون