حين سقطت ذراعي

04 فبراير 2021
شاهدة على ما حدث ذات عشيّة في المدينة (كريس ماكغراث/ Getty)
+ الخط -

"سقطتْ ذراعُكَ فالتقطها.. واضرب عدوّكَ (...) وسقطتُ قربكَ فالتقطني (...)". هل هذه فعلاً ذراعي، تلك التي سقطتْ للتوّ من على طاولة العمليّات الجراحيّة؟ الشعور بها منعدم، غير أنّني أسارع إلى التقاطها بيدي اليسرى ورفعها وإلقائها على بطني فور إدراكي ما حصل. وأدندن ما غنّته ماجدة الرومي من قصيدة محمود درويش "سقط القناع" في يوم. على الرغم من هذيان حتّمته عقاقير مهدّئة، هذا أوّل ما يتبادر إلى ذهني. وأبتسم... ربّما استهزاءً بـ"فضاوة بالي" وأنا في صدد الخضوع لجراحة دقيقة وقد نجوتُ من موت محتّم.
في تلك الصبيحة، حاولتُ كتمَ آلام خلّفتها شظايا زجاج اخترقتْ لحمي في مواضع مختلفة، عندما طاولني انفجار مرفأ بيروت، وصبَّ اهتمامي فقط على يدي اليمنى، موضع الإجراء الجراحيّ، قبل أن أغطّ في سبات افتعلته طبيبة التخدير. أن تتعطّل اليد اليمنى أمر جلل بالنسبة إلى غير العُسر. هكذا كانت الحال على مدى نحو مائة وثمانين يوماً.
اليوم، أشهر ستّة بالتمام والكمال انقضتْ مذ عصف ذلك الانفجار الرهيب بمدينة بيروت انطلاقاً من مرفئها، في الرابع من أغسطس/ آب الماضي. اليوم، أستطيع القول إنّني في الطور الأخير من استعادة يدي اليمنى، وإن كثُرتْ الندوب على طول ذراعي التي سقطتْ في تلك الصبيحة في غرفة العمليّات الجراحيّة. لن أطمس هذه الندوب بوشوم، ولا تلك الأخرى التي توزّعتْ على جلد جسدي، كذلك لن أجمّل أنفي الذي انفلع وتهشّمت عظامه. سوف أحتفظ بها شاهداً على ما حدث ذات عشيّة في المدينة التي انتقلت للسكن فيها أخيراً، كأنّما كنت أسعى إلى جعل ندوبها تُنقَش في لحمي.

موقف
التحديثات الحية

"الحمد لله... انقضى الأمر عند هذا الحدّ". لن أكفر إن طلبتُ عدم مواساتي بتلك الكلمات... إن طلبتُ عدم دفعي إلى لجم ألم يتلبّس بي. لن أكفر إن لم أمتنّ للبقاء على قيد الحياة ولإصابة يصنّفها كثيرون "معقولة". تفلّع لحم الجسد وتقطّع أوتار اليد وتضرّر أعصاب الذراع وتهشّم الأنف فاجعة ليست أهون من الموت. النجاة أشدّ قساوة. هي الموت مرّات ومرّات. ذلك الموت الذي يحوم في كلّ مرّة تستعيد الذاكرة فيها محاولة النهوض من تحت الركام واستعادة التوازن والنزف الغزير ومشهد الزجاج المنهمر بغزارة أمطار فبراير/ شباط... وفي كلّ مرّة يعود ذلك الغبار وتلك البلادة في الشارع إلى الذهن، مثلما تعود ساعات انتظار طويلة راقبتُ في خلالها كيف كانت جراحي تلفظ دمي ولا مَن يرتقها في مستشفيات غرقتْ أرضيّاتها بالمحاليل الطبيّة والدماء والجرحى والجثث والنظرات البلهاء. ويمضي الموت وهو يحوم مع كلّ نوبة هلع ومع كلّ شعور بعقدة ذنب الناجي... ومع تذكّر تماسكي والتقاط صور جراحي المفتوحة وجلدي المتمزّق وقد عجزتُ عن التفوّه بكلمات توصّف ما حلّ بي، في حين أنّني لم أكن قد أدركته. ستّة أشهر انقضتْ ولم أدركه بعد، في حين أنّ الموت ما زال يحوم في الأرجاء.

المساهمون